حسام مطر
يواجه اللاعبون السياسيون بشكل عام معضلة حرجة تتمثل في الموازنة بين قيمهم المعلنة ومصالحهم المادية، إلا ان هذه المعضلة تشتد خصوصاً في حالة اللاعبين الإيديولوجيين، بل تتحول الى التحدي الأقسى عند القوى الدينية، نتيجة ارتباط قيمها ومُثلها بالمقدس والإلهي، ما يجعل التغاضي عنها أمراً شديد الخطورة بل ومصيرياً.
تُعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأنموذج الأوضح للدولة العقائدية حالياً لا سيما على المستوى الإسلامي. لذا تحوز هذه الإشكالية قيمة إضافية في حال بحثها من خلال التجربة الإيرانية بإعتبارها دولة إسلامية شيعية ذات عقيدة انتظارية، بالإضافة لكونها قوة إقليمية ذات تأثيرات دولية عميقة. وعليه، كيف تتصرف الجمهورية الإسلامية في لحظة التناقض بين أهدافها العقائدية ومصالحها المادية؟ إن هذا السؤال كان ولا يزال من أبرز المعضلات التي يواجهها المفكرون والساسة الغربيون أثناء سعيهم لفهم السلوك الإيراني والتنبؤ بخطواته المقبلة، وهو ما دفع كيسينجر للقول: «المسألة الأساسية في ما يخص إيران هي ما إذا كانت إيران ترى نفسها كقضية أو كأمة».
نظرياً، تتجاهل النظريات التقليدية في العلاقات الدولية ـ الواقعية، الليبرالية، والماركسية ـ دور الدين أو تضعه على الهامش بمعنى انها لا تجد له أي تأثير مستقل على سلوك الدولة. لقد عانى هذا الحقل لفترة طويلة من فجوة أساسية تمثلت في إهمال الدين وذلك تأثراً بمنشئه الغربي ذي النزعة العلمانية، بالإضافة الى تضاؤل خطر النزاعات الدينية مع بروز الصراع التاريخي بين الماركسيين والليبراليين، ولاحقاً بسبب هيمنة الحرب الباردة على الدراسات الدولية وطغيان دراسات الامن القومي على هذا الحقل المعرفي، والتي لم يكن الدين هاجساً بارزاً فيها.
لاحقاً وبفعل الصدمات المتتالية منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وانتهاء الحرب الباردة وتصاعُد الحديث عن «صراع الحضارات» ومن ثم أحداث الحادي عشر من أيلول، تصاعدت بشكل مثير الكتابات والدراسات النقدية حول ضرورة إعادة الدين من «المنفى» الى حقل العلاقات الدولية. إلا أن محاولات دمج الدين في النظريات التقليدية لا زالت متواضعة، لكونها لا تزال بعيدة عن تكريس إصالة الدين ـ ومجمل العناصر الثقافية - بل تركز على دوره كعنصر متدخل في أفضل الأحوال. أما المحاولة الأبرز فقد تكون ما قدمته النظرية «البنيوية» التي أدخلت البعد الاجتماعي بشكل أصيل الى العلاقات الدولية. تركز هذه النظرية على فكرة جوهرية مفادها أهمية تأثير البنية القيمية وليس فقط المادية، على سلوك اللاعب السياسي فالمصالح القومية ليست متماثلة ـ كما يعتقد الواقعيون ـ بل ان المصالح تتنوع وتتحدد بحسب قيم وهوية اللاعب السياسي، غير ان منظري هذه المدرسة لم يقاربوا بجدية بعد موضوع الدين بشكل مستقل.
أمام هذه الفجوة النظرية كان لا بد من اللجوء الى مقاربات وأطر نظرية قادرة على معالجة أثر الهوية الدينية على السلوك الخارجي للدولة. من حيث المبدأ تتم الإجابة عن سؤال القيم - المصالح في حالة إيران من خلال مقاربتين أساسيتين، المقاربة الواقعية والمقاربة الإنثروبولوجية. يذهب أصحاب المقاربة الواقعية الى الجزم أنه في لحظة التناقض ستقوم إيران حتماً بتفضيل مصالحها القومية على تلك العقائدية، وأن الخطاب العقائدي لا يهدف سوى للتعبئة وتعزيز الشرعية وزيادة النفوذ والـتأثير. وعليه تصبح إيران من ناحية السياسة الخارجية كالسعودية والولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، أي أن سعيها الحقيقي هو لحفظ وجودها وأمنها ومصالحها الاقتصادية والتفوق والهيمنة.
في الاتجاه الآخر يذهب أصحاب «المفهوم الإنثروبولوجي» للهوية الدينية الى القول ان الهوية الدينية لها تأثير صافٍ ومطلق ومستقل على سلوك اللاعب السياسي، وبناء عليه يطلق هؤلاء على إيران صفة «الدولة المجنونة» أو «الدولة الشهيدة» التي تحركها عقيدة أخروية انتظارية لا تقيم وزناً للحسابات العقلانية بل يحركها الواجب الإلهي مهما كانت التكلفة. تُستعمل هذه المقاربة من قبل الإسرائيليين واليمين الأميركي للترويج لمقولة عدم إمكان إحتواء إيران بما لا يدع مجالاً سوى للعمل العسكري، ويركز هؤلاء غالباً على الخطاب الرسمي لقادة الجمهورية الإسلامية كتلك الصادرة عن أحمدي نجاد. إلا أن هذه المقاربة سياسية بامتياز وتفتقد الأدلة النظرية والعملية الجدية، وهي انتقائية بتركيزها على بعض المواقف والتصريحات الإيرانية، وعلى كل حال كما يقول راي تقية «إن إيران دولة خطابها دائماً أسوأ من سلوكها». يضاف الى ذلك، أن إيران تجد نفسها في حالة «لعبة الدجاجة» (بمعنى لعبة الجبان) مع الولايات المتحدة، لذا تحاول في لحظات محددة الإيحاء بنيات جنونية وممارسة سياسة حافة الهاوية لإجبار الأميركي على التراجع، إلا ان ذلك يعود لأسباب تكتيكية وليس عقائدية.
نتيجة المحدودية العملية لهاتين المقاربتين كان لا بد من مقاربة اكثر جدية، وهي في حالة إيران يمكن ان تكون مقاربة «التفسير السياسي» للهوية الدينية والتي تستند الى ان سلوك دولة كإيران انما يكون نتيجة العلاقة التفاعلية بين الهوية الدينية والمصالح المادية. بحسب هذه المقاربة يصبح الدين ـ والثقافة بشكل عام ـ عنصرا أساسيا ضمن جملة عناصر في تحديد سلوك الدول، ولذا فإن تأثير الهوية الدينية لا يمكن فهمه بشكل كامل من دون فهم علاقته التفاعلية مع جملة العوامل الإجتماعية، السياسية والاقتصادية. والأهم ان الوزن النسبي للمحددات الدينية والمادية تجاه بعضها البعض ليس ثابتاً بل خاضع للتطور تبعاً للزمان والمحتوى الداخلي والدولي الذي تتحرك ضمنه. وفي هذا السياق صرح الشيخ رفسنجاني عام 2003 أن الوزن النسبي للإسلام والمصالح القومية اثناء صناعة قرارات السياسة الخارجية يعتمد على ظروف كل قضية بذاتها في تلك اللحظة الزمنية المعينة.
إذاً، رغم الطابع العقائدي للجمهورية الإسلامية، فإنها تقوم بحسابات استراتيجية بخصوص العوامل المادية كالاقتصاد، توازن القوى، والأمن القومي. إن النظام الإيراني مدرك بشدة ضرورة حفظ أهدافه الإسلامية الثورية لكن من دون تجاهل الشروط المادية، إذ ان حفظ مصلحة الإسلام ـ المصلحة الأسمى - لا يمكن أن تتحصل من دون حفظ الجمهورية الإسلامية. لذلك تدرك القيادة الإيرانية أن بعض أهدافها العقائدية المعلنة لا يمكن حفظها في لحظة معينة نتيجة المحدودية في الموارد والقوة، ما يحتم عليها القيام بعملية تصنيف لهذه الاهداف ضمن سُلم اولويات حيث يتم توجيه الموارد المحدودة تجاه الأهداف الأولى فالأولى. إن عملية تصنيف الأهداف هذه تتم وفق المعايير التالية: قدسيتها التي تنعكس في الخطاب الرسمي وأثرها على شرعية النظام داخلياً، شيعياً وإسلامياً، مدى ارتباط هذه الأهداف بالمهدوية، وأخيراً مدى التصاقها بالمصلحة القومية.
يبقى من المهم تحديد الحالات التي قد يختار فيها النظام الإيراني تجاوز المصلحة القومية في سبيل اهدافه ومُثله الإسلامية في لحظة التناقض الحاد بينهما، وقبل ذلك لا بد من الإشارة الى جملة مقدمات ضرورية:
أولاً في الثقافة الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية والتي تتشكل بفعل عوامل الجيوبولتيك، التاريخ، القومية والوعي والتجربة الشيعية. تتأسس هذه الثقافة على مشاعر متناقضة من الكبرياء والتميز والشعور بالمظلومية أنتجت حساسية مفرطة تجاه مفاهيم الاستقلال والعدالة والاكتفاء الذاتي ورفض الهيمنة، مع قابلية عالية للتضحية وتقبل التكاليف والتعلق بقيمة الاستشهاد، والأخذ بالحسبان مفهوم المدد الإلهي والقوة الغيبية بالشكل الذي يخالف نظرية الغربيين حول «الخيار العقلاني» باحتساب التكاليف والمكاسب.
ثانياً، المهدوية بمعنى الانتظار البنَاء والإيجابي كما عبر عنه الإمام الخميني والشهيد مطهري، والذي يلزم المنتظرين بالاستعداد الروحي والأخلاقي والعملي ومجاهدة الطواغيت بحسب قول الإمام الخامنئي. إلا أنه بملاحظة المنهج الذي أرسته المدرسة الخمينية للانتظار كالابتعاد عن التفسيرات الضيقة وتجنب الإسقاطات القطعية للروايات المهدوية على أحداث محددة، يظهر ان المهدوية ذات تأثير متدخل وليس مستقلاً، على السياسة الخارجية الإيرانية.
ثالثاً، يملك الولي الفقيه القرار النهائي في صنع السياسة الخارجية وذلك بمقتضى سلطته الدينية والنصوص الدستورية وحضوره في مؤسسات السياسة الخارجية ـ مباشرة أو عبر ممثلين له. يضاف الى ذلك، حال التوازن والتداخل بين الاجهزة المختلفة التي تمنع احدها من التسلط على صناعة القرار وهو ما يعزز سلطة الولي الفقيه على السياسة الخارجية. من حيث المبدأ يكتفي الولي الفقيه بتحديد الإطار العام للسياسة الخارجية إلا أنه في حال وجد انحرافات خطيرة، فإنه لا يتردد في الدخول في التفاصيل، وكذلك في حال وجود قضية أو ملف حساس (على مثال الملف النووي). لا يعني كل ذلك أنه سلطته مطلقة من الناحية العملية إذ تبقى لرئيس الجمهورية أدوار أساسية، وكذلك الأجهزة التي تردف الولي الفقيه بالمعلومات والتقويمات، إلا أن القصد أن المرشد يستطيع أن يمسك السياسة الخارجية «من قرنيها» إن صح التعبير، والأهم هو أنه المرجعية المعنية بحل التناقض بين المصلحة القومية والإهداف العقائدية لحظة وقوعه.
إن إيران يمكن أن تُقدم مصالحها وأهدافها العقائدية على مصالحها القومية في لحظة تناقضهما الشديد في الحالات التالية:
- عندما يكون الهدف العقائدي ذا قيمة قدسية عالية ويرتبط مباشرة بالشرعية الدينية للنظام، ولا سيما متى حضر البعد المهدوي كعامل متدخل لتحفيز هذا الهدف، والمثال الأوضح لهذه الحالة هو الموقف من الكيان الصهوني.
- عندما يحمل الولي الفقيه ـ باعتباره صاحب القرار الفعلي - فهماً دينياً ورؤيةً عقائديةً ترفض المساومة وتميل للسياسات الثورية، لا سيما متى شاركه في ذلك رئيس الجمهورية.
- في لحظات التوتر الداخلية الحادة التي تهدد الشرعية الداخلية للنظام الإسلامي، قد يلجأ النظام الى سياسات متشددة تجاه القضايا ذات البعد الديني بهدف تعويض النقص الحاصل في شرعيته الشعبية بتلك الدينية.
- في الحالة الأخيرة، هي عندما يخطئ أو يستهين النظام في تقدير التكاليف الحقيقية للسياسات ذات الحافز الديني.
إن هذه القراءة لحضور الدين والواقعية في السياسة الخارجية الإيرانية وحدود كل منهما يمكن أن تشكل قاعدة صالحة لفهم وتفسير السياسات الإيرانية على مثال دعمها للمقاومة، موقفها من الولايات المتحدة، وحالياً مواقفها تجاه «الربيع العربي». بالمحصلة يصح توصيف إيران على انها لاعب «عقائدي استراتيجي».
([) باحث لبناني
الله والإسلام والمهدي.. في سياسة إيران الخارجية
Tags:
0 comments: