Thursday, June 28, 2012



نقولا ناصر

إن الأضواء المسلطة على "التنسيق الأمني" بين سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي تبقى أنوارها بعيدة عن كشف التنسيق الاقتصادي الأوسع والأعمق والأخطر الذي يبقي الحياة الفلسطينية معلقة على العصب الاقتصادي الذي يبقيها تابعة تبعية عضوية لا فكاك منها للاحتلال ودولته، وهي تبعية تجعل التنسيق الأمني تحصيل حاصل لضمان استمرار التبعية الاقتصادية التي لا يمكن تحقيق "الاستقلال" الفلسطيني المأمول دون التخلص منها أولا.

منذ بداية الغزوة الصهيونية لفلسطين كانت المقاطعة الاقتصادية للمستعمرات اليهودية ومستوطنيها إحدى أدوات المقاومة الأولى التي استخدمها عرب فلسطين لصد تلك الغزوة، غير أن "عملية السلام" التي أطلقت في العاصمة الأسبانية عام 1991 واتفاقيات أوسلو التي انبثقت عنها بعد عامين قد أنتجت "سلطة وطنية فلسطينية" يعتمد بقاؤها على تحويل الاقتصاد من أداة للمقاومة إلى أداة في يد الاحتلال ترسخ التبعية له وتجعل "الاستقلال" الفلسطيني مستحيلا.

إن التزام حكومة السلطة برام الله بالاتفاقيات الموقعة مع دولة الاحتلال، ومنها على سبيل المثال اتفاقية معابر قطاع غزة عام 2005، لا يزال يتخذ ذريعة "فلسطينية" لعدم فك الحصار العربي عن القطاع، وفكه ممكن، وهو إن تحقق يمكنه أن يحرر القطاع من استمرار ارتهان حياته الاقتصادية للاحتلال ودولته.

فالملحق السادس للاتفاق الانتقالي الإسرائيلي الفلسطيني على الضفة الغربية وقطاع غزة الموقع في واشنطن عام 1995 ينص على "التعاون" الاقتصادي والصناعي والزراعي، و"تسهيل التعاون" بين "المؤسسات الاقتصادية وقطاعات الأعمال" و"إقامة المشاريع المشتركة"، و"تسهيل التجارة بين السوقين". وكان قد تم في السنة السابقة توقيع بروتوكول باريس الاقتصادي الذي قال وزير الاقتصاد السابق حسن أبو لبدة إن لدى السلطة برام الله "ألف سبب" لإلغائه، معتبرا أن كون "فلسطين تحتل المرتبة 135 في العالم على مقياس أداء الأعمال .. مؤشر خطير على التحديات التي تواجه المستثمرين في بلدنا" (القدس العربي في 4/5/2012).

في كلمته أمام المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد في اسطنبول في الخامس من الشهر الجاري قال الرئيس محمود عباس إن الاحتلال "يحول دون تكامل الدورة الاقتصادية في بلادنا"، لكنه كرر التأكيد على "الوفاء بالالتزامات كافة المترتبة علينا في الاتفاقيات المبرمة"، متجاهلا أن "الوفاء بالالتزامات" هو على وجه التحديد الذي يقطع "الدورة الاقتصادية" الفلسطينية، لا بل إنه أكد أن "منطقتنا بحاجة إلى مد جسور التعاون"، ويشمل ذلك "جيراننا الإسرائيليين"، مع أن استمرار هذه "الجسور" مفتوحة هو المسؤول عن التبعية الاقتصادية الفلسطينية الراهنة للاحتلال ودولته وهو الذي يمثل العقبة الاقتصادية الرئيسية التي تجعل "الاستقلال" السياسي الفلسطيني مستحيلا دون الاستقلال الاقتصادي، والعكس صحيح أيضا. إنه فخ اتفاقيات أوسلو الذي أوقعت قيادة منظمة التحرير شعبها فيه.

وفي اليوم نفسه، كان محافظ سلطة النقد الفلسطينية د. جهاد الوزير يحذر، في مقابلة مع اليومية العبرية "كالكاليست" من أن "الأزمة المالية" التي تعيشها الحكومة برام الله "قد تسوء أكثر" إذا لم تف الدول العربية بتعهداتها بتوفير "شبكة أمان" مالية لها بحيث سيكون من الصعب عليها دفع رواتب موظفيها اعتبارا من تموز / يوليو المقبل، وأعلن بأن البنوك العاملة في فلسطين "تلقت تعليمات" بعدم منح المزيد من القروض للحكومة لأنها "وصلت الخط الأحمر"، وذلك بعد أسبوع فقط من دعوته عرب "إسرائيل" في مؤتمر المال والأعمال العربي الذي انعقد في الناصرة في الثلاثين من الشهر الماضي إلى الاستثمار في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

وتذكر دعوة الوزير بمؤتمرات تشجيع الاستثمار التي ترعاها السلطة و"يسهلها" الاحتلال، مما يذكر بدوره برسالة الماجستير التي خلص فيها عيسى سميرات العام الماضي إلى أن استثمارات القطاع الخاص الفلسطيني في دولة الاحتلال بلغت ما لا يقل عن (2.5) مليار دولار عام 2011 مقابل (1.5) مليار دولار في الضفة الغربية، وأن حوالي (16) ألف صاحب أعمال من الضفة الغربية يحصلون على "تصاريح" للعمل في دولة الاحتلال وفي مستعمراتها الاستيطانية لتأسيس شركات ومصانع فيها يدفعون ضرائب عنها لخزينتها.

وفي مقابلة لسميرات مع "هآرتس" العبرية قال إن وزارة الاقتصاد في رام الله فسرت له ذلك بقولها إن "بروتوكول باريس" لا يحظر على الفلسطينيين الاستثمار لا في "إسرائيل" ولا حتى في مستعمراتها الاستيطانية، مما يذكر أيضا بقول رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو على موقعه الالكتروني (netanyahu.org) إن ذاك البروتوكول قد أبرم "من أجل منع إقامة حدود اقتصادية" بين الجانبين.

ولا يزال ما لا يقل عن (35) ألف عامل فلسطيني يعملون في المستعمرات الاستيطانية بالضفة الغربية، يدفع كل منهم حوالي ستة دولارات يوميا رسم تصريح للعمل فيها، أي أنهم في مجموعهم يدفعون (210) آلاف دولار يوميا لخزينة الاحتلال، حسب خالد منصور منسق مقاطعة سلع الاحتلال في دراسة له.

إن استثمار القطاع الخاص في المستعمرات الاستيطانية واستمرار العمالة الفلسطينية فيها هما دليلا فشل حملة المقاطعة التي قادتها حكومة السلطة برام الله ومفارقة اقتصادية تتناقض مع مطالبة السلطة بوقف الاستيطان كشرط لاستئناف المفاوضات السياسية مع دولة الاحتلال.

لكن السؤال يظل معلقا عن السبب الذي لا يزال يحول دون السلطة وحكومتها برام الله ومنع الاستثمار الفلسطيني في دولة الاحتلال ومستوطناتها، فسحب (2.5) مليار دولار من الاستثمار فيهما واستثمار هذا المبلغ في الضفة كفيل بفتح أسواق عمل وطنية تغني العمالة الفلسطينية عن ذل العمل لدى الاحتلال ومستوطنيه.

واستمرار الوضع الاقتصادي الراهن تجسيد عملي لـ"لسلام الاقتصادي" الذي دعا نتنياهو إليه، حاثا على "الاستثمار اليهودي في الاقتصاد الفلسطيني"، بالرغم من رفض منظمة التحرير المعلن له، وهو وضع يسوغ التقرير الذي قدمته حكومته للدول المانحة في بروكسل في آذار / مارس الماضي لإثبات أن الاقتصاد الفلسطيني "لا يسمح بإقامة دولة مستقلة" فلسطينية.

ويبدو أن هذا "التعاون" قد اتسع ليشمل التعاون مع رأس المال اليهودي العالمي. فقد أبرم موريس ليفي المدير التنفيذي لشركة "بوبليسيز"، وهي إحدى أكبر شركات الإعلان في العالم، صفقة اشترى بموجبها مؤخرا (20%) من شركة "زووم" الفلسطينية، لتتكون منهما شركة "بوبليسيز زووم" الجديدة التي تضم قائمة عملائها بنك فلسطين. وليفي، الذي اشترى حصة أكبر في شركة إسرائيلية أيضا، حاصل على "جائزة القيادة الدولية" من رابطة مكافحة التشهير اليهودية الأميركية، أحد أذرع اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، وقد علق على الصفقتين بأنهما تمثلان "مساهمة" منه في التنمية الاقتصادية "التي لا يمكن أن يحل أي سلام دائم من دونها" (صحيفة "الجيماينر" اليهودية الأميركية في 19/6/2012).

إن استمرار الالتزام الفلسطيني بهذا النهج الاقتصادي قضى عمليا على المقاطعة العربية لدولة الاحتلال التي تخلت مصر عنها أولا وتبعتها الأردن ثم انسحبت منها البحرين بعد أن أسقطتها بقية الدول العربية بهذا القدر أو ذاك لتكون العربية السعودية آخر من أنهى حظر السلع والخدمات الإسرائيلية كي تتأهل للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، لتظل سورية يتيمة في التزامها بالمقاطعة ... على الأقل حتى الآن!

إن حجم هذا "التنسيق الاقتصادي" يتجاوز كثيرا إطار أي ضرورات تبيحها المحظورات الوطنية الفلسطينية.

موقع فلسطين أون لاين، 23/6/2012
Previous Post
Next Post

About Author

0 comments: