Sunday, August 26, 2012

أميركا.. ومعاني تقليص الإنفاق العسكري

السبت 25 آب 2012،   آخر تحديث 11:11حسين عطوي - "الوطن" القطرية

«تعاني الإمبراطورية الأميركية تصدعاً داخلياً خطيراً ينذر بأفولها وزوالها، وتدرك الولايات المتحدة هذا الخطر وتعيش بسببه صراعاً سياسياً، وتشن حروباً مسرحية صغيرة على الإرهاب في أفغانستان والعراق بقصد التعمية والتمويه على حقيقة ضعفها وقرب انهيار نظامها».
هذا الكلام للكاتب الأميركي ايمانول تود ورد في كتابه ما بعد الإمبراطورية، دراسة في تفكك النظام الأميركي، صدر عام 2003 عن دار الساقي استبق فيه الأحداث التي حصلت بعد ذلك وتوقع سقوط وشيك للإمبراطورية الأميركية نتيجة ركودها الاقتصادي المطرد، وتراجع قدراتها الاقتصادية والعسكرية والإيديولوجية التي لا يسمحن لها بالسيطرة فعليا على عالم أصبح شديد الاتساع وتنبئ بانهيار حلمها الإمبراطوري.
وأهمية التذكير بهذا الكلام وتنبؤ تود اليوم يكمن في انه يتحقق فعلياً على أرض الواقع، ولم يعد مجرد توقع يستند إلى قراءة واقع الاقتصاد الأميركي والمسار الذي يتجه إليه في المستقبل إذا ما استمر الخلل وتوسيع الهوة بين تزايد الاستهلاك، وتنامي العجز في الميزان التجاري الأميركي، إنما تؤكده المعطيات الاقتصادية والمالية في عام 2012 أي بعد نحو ما يقرب من تسع سنوات على كلام ايمانويل تود، فأميركا التي كانت في أواخر القرن التاسع عشر تملك أقوى اقتصاد في العالم، وأكثر الدول تمتعاً بالاكتفاء الذاتي النابع من انتاجها الضخم للمواد الأولية، والفائض الكبير في ميزانها التجاري، وشكل اقتصادها عام 1945 نصف الانتاج العالمي أصبحت الصورة فيها اليوم معكوسة تماماً بعد ان تراجعت إنتاجية الاقتصاد الأميركي في موازاة الإفراط في الاستهلاك المترافق مع تنامي العجز في الميزان التجاري الذي بدأت وتيرته بارتفاع بين عام 1990، وعام 2000 من 100مليار دولار إلى 450 ملياراً، ومن عام 2000 ـ 2011 بلغ العجز عتبة التريليون دولار.
وكي تحافظ على مستوى استهلاكها المرتفع أقدمت على تمويل العجز بالاستدانة، التي أخذت بالتزايد حتى وصلت مع نهاية 2011 إلى 14.5 تريليون دولار، وهو ما يشكل إجمالي الناتج القومي الأميركي، وما دفع إدارة الرئيس باراك اوباما إلى الطلب من الكونغرس الإجازة لها باستدانة 2.4 تريليون دولار، لتأمين النفقات المترتبة للعام 2012، وإلا لن تكون قادرة على الوفاء بالتزاماتها، وتأمين حتى رواتب جنودها في أفغانستان.
هذه الحالة التي وصل إليها الاقتصاد الأميركي أفقدت أميركا تفوقها الاقتصادي وجعلها في وضع من يطلب المساعدة الاقتصادية والمالية من العالم، وخصوصاً من عدوها اللدود الصين، وبعد ان كان العالم بحاجة إليها اقتصاديا، ومالياً باتت اليوم تحتاج إليه، تستورد منه مختلف السلع الاستهلاكية، والرساميل وما جعلها تعاني من التبعية الاقتصادية، وبدلاً من تدارك هذا الواقع الاقتصادي والمالي الذي يدفع أميركا إلى الغرق في فخ المديونية والعجز المتزايد في الميزان التجاري الناتج عن الركود الاقتصادي، وتراجع آلتها الإنتاجية، في ظل اشتداد المنافسة الاقتصادية الدولية عمدت واشنطن إلى انتهاج مسارين:
الأول: الإيغال في سياسة الاستدانة للمحافظة على مستوى معيشة مرتفع يفوق قدراتها.
الثاني: شن الحروب للسيطرة على موارد الطاقة العالمية والأسواق لحل أزماتها الاقتصادية والمالية.
غير ان هذا السلوك الاقتصادي والعسكري لم يسفرا عن تحقيق احلام أميركا، وإنما أديا إلى مضاعفة أزماتها، ودخولها في نفق لا مخرج منه.
فالديون ارتفعت، وبلغت أرقاما فلكية، وفوائدها أرهقت الاقتصاد الراكد، والعجز تزايد، فيما الحروب، التي جرى تمويل نفقاتها واكلافها بالديون، لم تؤدِ إلى تمكين أميركا من تحقيق أهدافها في السيطرة، وحل أزماتها بل أدت إلى استنزاف قدراتها المالية، والتعجيل بانفجار أزماتها في عام 2008، ما اضطرها إلى الانسحاب من العراق، وأخذا قرار الانسحاب من أفغانستان عام 2014، وبالتالي الاعلان رسمياً عن فشل حروبها التي لم تجنِ منها سوى الخسائر الباهظة الثمن، وتزعزع مكانتها الدولية، ودخولها في عصر أفول وانهيار أمبراطوريتها التي باتت عاجزة عن فرض سيطرتها على العالم الذي بات متشابكاً اقتصادياً بفعل العولمة.
على أن تأخر الولايات المتحدة في الإقرار بعدم قدرتها على الاحتفاظ بسيطرتها على العالم، والتحكم بالقرار الدولي السياسي والاقتصادي عمق أزماتها وضاعف من عجزها وجعلها مكرهة على اتخاذ قرارات تراجعية انكفائية تقشفية متأخرة سوف تقود في الفترة القادمة إلى تعزيز هذا الاتجاه أميركيا على نحو يتناسب مع الضعف المتزايد في قدرات أميركا الاقتصادية والمالية.
وابرز وأهم القرارات التي اتخذتها إدارة اوباما في الآونة الأخيرة كان:
أولا:خفض الموازنة العسكرية الأميركية: لأول مرة، أن أصبحت الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم، تقدم واشنطن على اتخاذ قرار قضى بخفض الانفاق العسكري، حيث أعلن الرئيس اوباما تقليص موازنة وزارة الدفاع الأميركية نحو 450 مليار دولار، وخفض عديد الجيش الأميركي من 570 ألف جندي إلى 490 ألفا، ما عنى الاستغناء عن 80 ألف جندي، إلى جانب خفض عدد الطائرات، وقوات المارينز، ورواتب المواطفين.
ثانياً: إحداث تغيير في الإستراتيجية العسكرية الأميركية عكس انكفاء اميركياً يحدث لأول مرة، وتمثل في اتخاذ قرار بعدم الإقدام على شن حروب برية مماثلة لحروب العراق، وأفغانستان لصالح الاعتماد على العمليات الجوية وعمليات كوماندوس محددة، للدفاع عن المصالح الأميركية.
ثالثاً:تغيير في الأولويات العسكرية الأميركية لصالح التركيز على شرق آسيا، والمحيط الهادي لمواجهة ما تسميه واشنطن بالخطر العسكري الصيني الذي يزداد في المنطقة واستطراداً الإعلان عن عزمها نشر قواعد عسكرية جديدة في المنطقة لمواجهة هذا الخطر، ما يشكل انكفاء عسكرياً عن مناطق عديدة في العالم كانت تقع سابقاً في أولويات الإستراتيجية العسكرية الأميركية.
وإذا كانت منطقة الخليج العربي ستبقى بالنسبة لأميركا من الأولويات إلا انه من الملاحظ أن السياسة الأميركية بدأت في الفترة الأخيرة تركز على تفادي الانجرار إلى أي حرب جديدة وتجنب أي احتكاك مع السفن الحربية الإيرانية، ومحاولة لجم إسرائيل لعدم إقدامها على توريط أميركا في حرب ضد إيران، غير قادرة لا على تحمل أكلافها، ولا على تجنب اضرارها على مصالحها الحيوية وقواعدها العسكرية المنتشرة في منطقة الخليج التي تقع جميعها في مرمى الصواريخ الايرانية القادرة على الوصول اليها.
ماذا يعني تقليص الانفاق العسكري الأميركي، وتقليص عديد القوات الأميركية، وتغيير الاستراتيجية العسكرية الأميركية؟
انه يعني الأمور الآتية:
الأمر الأول:إن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد قادرة على تحمل أعباء الإنفاق الكبير على قواتها المسلحة، ولهذا اضطرت إلى خفض عديدها وإعادة النظر باستراتيجيتها العسكرية، بما يتناسب مع تراجع قدراتها الاقتصادية والمالية.
الأمر الثاني: إن الأزمة الاقتصادية، والمالية العاصفة بأميركا هي التي دفعتها إلى مثل هذه القرارات، كما اعتراف اوباما بذلك، ما يعني أن واشنطن كانت مجبرة، ومكرهة على اتخاذ مثل هذه التدابير التقشفية.
الأمر الثالث: إن النتائج الكارثية المتولدة عن الحرب في العراق، وفي أفغانستان كانت وراء إعادة النظر في استراتيجية الحروب لصالح التركيز على القوات الجوية، وعدم التورط في حروب برية مباشرة.
الأمر الرابع:إن الإدارة الأميركية قررت إعطاء الأولوية لمواجهة تحديات المنافسة الاقتصادية الدولية التي تمثلها اقتصاديات كل من الصين، والهند، والبرازيل، والتي أدت إلى تحجيم حصة أميركا من التجارة الدولية وإقصائها عن مواصلة التسيّد على سدة القرار الاقتصادي العالمي.
الأمر الخامس:إن الإستراتيجية الأميركية الجديدة تعكس توجهاً أميركيا لا يقتصر انتهاجه على إدارة اوباما الحالية، وإنما سوف يشمل كل الإدارات الأميركية في المستقبل، أي انها سوف تصبح سياسة أميركية حاكمة للحزبين الديمقراطي، والجمهوري، ولا شك سوف يتحمل الحزب الجمهوري المسؤولية عن وصول أميركا إلى هذا الوضع، نتيجة توريط أميركا في حروب باهظة الثمن والكلفة ومواصلة سياسات ليبرالية غير رشيدة المتفلتة من أي ضوابط وقيود أغرقت أميركا في الديون، وكشفتها مالياً وأدت في النهاية إلى تفجير اعنف أزمة تشهدها الولايات المتحدة، تفوق كثيراً أزمة الكساد الكبير عام 1929، لكونها هذه المرة أزمة بنيوية لا حل لها.
الأمر السادس: إن هذه الإستراتيجية الأميركية الجديدة، والتدابير التي رافقتها، تعني عمليا ان الولايات المتحدة دخلت في مسار انحداري لأول مرة منذ 200 سنة فقدت فيه القدرة الاقتصادية التي طالما كانت تجعلها في سدة القرار الدولي اقتصادياً وسياسياً، وعسكرياً وهذا سوف ينعكس في خلق صعوبات كبيرة أمام أي إدارة أميركية في شن الحروب كبيرة واسعة، أو التورط في احتلال أي دولة، ليس لعدم الرغبة في ذلك، وإنما لعدم توافر الموارد المالية التي تتطلبها مثل هذه الحروب.
الأمر السابع: إن الهاجس الأساسي الذي سيشغل الإدارات الأميركية، ومراكز القرار في واشنطن من الآن وصاعداً هو تقدم الصين المطرد اقتصادياً، وعسكرياً، والذي يهدد بقاء أميركا كقوة عالمية، ويبدو ان التركيز الأميركي على مواجهة الخطر الصيني سوف يؤدي إلى توتر العلاقات الصينية الأميركية، وهو ما تجسد في قيام وسائل الاعلام الصينية بشن حملة انتقادات للسياسات الأميركية في شرق آسيا والمحيط الهادي، وتحميلها مسؤولية ارتفاع منسوب التوتر فيها وتهدد الأمن الإقليمي، غير أن الخبراء يرون أن أميركا محكومة بالعلاقة مع الصين، فهي بحاجة إليها اقتصادياً، ومالياً، لا تستطيع إن تذهب بعيداً في توتير العلاقات معها، كما أن الصين ليس لها مصلحة في اندفاع الأمور إلى مرحلة القطيعة مع أميركا حتى لا تخسر السوق الأميركية التي تصدر منتجاتها إليها، وخوفاً من خسارة مئات مليارات الدولارات التي تكتتب فيها بسندات الخزينة الأميركية، والتي تحتاج إليها واشنطن لمواجهة استحقاقاتها المالية.
Previous Post
Next Post

About Author

0 comments: