1. بن غوريون خلّف فراغاً لم يتم ملؤه حتى الآن
يوسي بيلين
حينما كنا طلاباً كنا نمضي بعد انهاء الدراسة الى دكة الصحف ونقطع بحذر صفحات الصحيفة الأسبوعية "هعولام هزيه" (هذا العالم) (أغلقت في العام 1993) غير المفصولة كي ننظر الى الصور الاباحية التي كانت تنشرها، وكنا نعلم أننا سنجدها هناك فقط على الدكة، لأن هذه الصحيفة الاسبوعية، التي كانت تشتمل على مثل هذه المادة، لم تكن تدخل البيوت المحترمة.
ذات يوم دخل جدي الى البيت يتأبط عددا من "هعولام هزيه". وكاد يغشى علينا. فلا يمكن ان نفسر خطر هذا الأمر. فجدي، وهو يهودي متدين ذو قبعة سوداء على هيئة قارب غطت صلعته كلها، يمسك بيده صحيفة اسبوعية تتناول النمائم والامور الجنسية ومعارضة الحكومة! وكان ذلك يشبه حقا أن يجيء الى البيت مع فيلم فيديو جنسي يلوح به أمام أعين الجميع.
لم يشعر جدي خاصة بأي حرج، وأوضح أنه اشترى هذا العدد بسبب ما كان مكتوبا في الصفحة الخارجية، ولم تنقله أخبار صوت إسرائيل، وهو ان بن غوريون استقال. أكثر بن غوريون في الحقيقة من الاستقالة، لكنه في ذلك الاسبوع خاصة لم يفعل ذلك، بل كان اوري افنيري، محرر الصحيفة الاسبوعية، هو الذي دعاه الى الاستقالة، ولم ينتبه جدي الى علامة القراءة!.
كانت استقالة رئيس الوزراء ووزير الدفاع دافيد بن غوريون من أكبر التهديدات لأكثر الإسرائيليين. وقد فعل بنا ذلك في العام 1953، لكنه استجاب، بعد وقت كان فيه موشيه شريت رئيس الوزراء وبنحاس لافون وزير الدفاع، لتوسل غولدا مئير ورفاقها ووافق على ان يتولى وزارة الدفاع، أما في انتخابات 1955 فقد ترأس قائمة "مباي" للكنيست، وعاد الى رئاسة الوزراء.
لم تكد الدولة تعرف كيف يمكن ان توجد دون ان يرأسها بن غوريون، وارتاع جدي ايضا لهذا الامكان. حينما استقال قبل خمسين سنة بالضبط، في 16 حزيران 1963، لم يصدق كثيرون أنها استقالة نهائية، لكن تبين بعد ذلك (برغم ان بن غوريون ندم بعد ذلك وأصبح مستعدا للعودة) أنها كانت استقالة حقيقية، ولم يعد العجوز الى مقود الدولة حتى موته بعد ذلك بعشر سنوات.
في الحقيقة لم يكن يوجد أي تسويغ لاستقالته. ففي ستينيات القرن الماضي حققت الدولة النماء والهدوء بعد سنوات من الأمن المزعزع واقتصاد كان من الصعب عليه ان يلبي الحاجات الكثيرة للمهاجرين الجدد. بعد حرب سيناء في العام 1956 ساد الحدود هدوء، وحدثت ثورة صناعية تحت اشراف بنحاس سبير وزير الصناعة والتجارة.
ونما الاقتصاد سريعا، وارتفع مستوى العيش وأُنشئت جامعات جديدة ومؤسسات ثقافية مختلفة، ووجدت إسرائيل نفسها تساعد نظم الحكم الجديدة في افريقيا، وقد أصبحت نموذجا يحتذى للعالم في مجالات كثيرة في مقدمتها الحركة الكيبوتسية. وأحدثت سياسة بن غوريون الحكيمة والابداعية عددا من هذه الظواهر، ومكّنت لعدد آخر. وثبتت منزلته باعتباره "أبا الأمة" وكان يستطيع ان يتولى عمله بضع سنين اخرى.
حل محله ثلاثة رؤساء حكومات من حركته فشلوا واحدا بعد آخر (ليفي اشكول بسبب ضعفه، وغولدا مئير بسبب عدم فهمها المطلق في المجال الاجتماعي وفي المجال السياسي الامني، واسحق رابين الذي فشل في فترة ولايته الاولى بسبب عدم تجربته). الى ان انتُخب في العام 1977 خصم بن غوريون الخالد لرئاسة الحكومة. كان هو مناحيم بيغن، زعيم "الليكود" الذي عارض خطة التقسيم في 1947 والذي لو كان الامر متعلقا به لما قامت إسرائيل بعد ذلك بسنة.
إن قضية "صفقة العار" (التي حاول رجال استخبارات إسرائيليون في العام 1954 ان يُدينوا من خلالها المصريين بالمس بمنشآت أمريكية في القاهرة للاضرار بالعلاقات بين الدولتين)، أُثيرت من جديد بعد ذلك بست سنوات، حينما كان لافون أمين سر الهستدروت، وطلب إلى رئيس الوزراء، بن غوريون، ان يُبرئه من تهمة الامر بتنفيذ العملية الصبيانية الفاشلة هذه التي كلفت ثمنا بشريا باهظا.
وحينما استقر رأي الحكومة على ان تفحص لجنة وزارية ذلك الامر، ولم تقبل طلب بن غوريون ان تشتغل بذلك جهة قانونية، استقر رأي الزعيم الشيخ على ان يترك السفينة. وبعد ذلك بسنتين ترك "مباي" (طُرد منه في واقع الامر بمحاكمة داخلية) وأنشأ مع موشيه ديان وشمعون بيريس واسحق نافون "قائمة عمال إسرائيل" (وكانت ظاهرة لا داعي لها ألبتة لم تُرح أحدا وانتهت بعد سنتين ونصف مع انضمام "رافي" الى حزب العمل).
مرت خمسون سنة بالضبط وما زالت سنوات زعامة بن غوريون تصاحبنا الى كل مكان لحسن وأحسن. ان الامور التي أصر عليها (الجيش الواحد وعدم الاستعداد لمنح الاستقلال لا لـ "البلماح" ولا لـ "الايتسل"؛ وشبكة أمن استراتيجية، وإقرار ان القدس هي عاصمة إسرائيل برغم موقف الامم المتحدة) والامور التي صالح عليها (تخليد الوضع الراهن الديني، وعدم الفصل بين الدين والدولة بحيث تكون قوانين الاحوال الشخصية لكل ديانة هي قوانين الدولة، والاعفاء الجزئي لشباب المدارس الدينية من الخدمة في الجيش الإسرائيلي) بقيت على حالها ونحن الآن في سنة 2013.
وقد عارض الدستور، وأقر الفصل بين الجيش و"الشاباك" و"الموساد"، وأقر الفصل بين الرئيس ورئيس الوزراء، وبين وزير القضاء ومستشار الحكومة القانوني، وأقر مئات الامور الاخرى التي يصعب جدا تغييرها، لأن ما تم إقراره في سنوات التشكيل يصبح ثابتاً في الأكثر.
كانت لدى بن غوريون عظمة الى جانب إسفاف: فقد كان يعرف كيف يتخذ قرارات جريئة – مثل أهم قرار في حياته وهو انشاء دولة إسرائيل – كما اتخذ قرارات مخطئة جدا (مثل تمديد الحكم العسكري، وعدم الغاء حالة الطوارئ في إسرائيل، وعدم الغاء قوانين الطوارئ وما أشبه). وتكلم بسخافات ايضا أكثر من مرة مثل قوله "أوم مشموم" (أمم متحدة جوفاء) الذي لا ينسى، لكنه لم يوجد مثله مع كل ذلك.
وثبت ان مقولة لا يوجد انسان لا يمكن استبداله غير دقيقة حينما يدور الحديث عن بن غوريون. كان جدي، اذاً، على حق حينما ارتاع كثيرا. ان استقالة بن غوريون أنهت فصلا من حياة إسرائيل، وبدأت فصلا أقل نجاحا الى الآن اذا لم نشأ المبالغة.
ربما كان الزعيم الشيخ ينجح في الامتناع عن دخول الورطة التي أفضت الى حرب "الايام الستة" في العام 1967. وربما كان يحقق تصوره بشأن الحفاظ على القدس والخليل ويحررنا من عبء الاحتلال بعد حرب "الايام الستة"، وهو شيء كان سيجنبنا كارثة "يوم الغفران" – لكن شيئا واحدا واضح وهو ان بن غوريون خلف فراغا عظيما لم يتم ملأه حتى الآن.
عن "إسرائيل اليوم"
0 comments: