Thursday, December 12, 2013

حرب العشائر في مصر

حرب العشائر في مصر

 3 كانون الأول/ديسمبر 2013
بعد مرور ما يقرب من خمسة أشهر على الانقلاب المدعوم بانتفاضة شعبية والذي أطاح بالرئيس محمد مرسي تنعم مصر بالهدوء في الغالب. وقد يبدو هذا مفاجئاً، لا سيما في ضوء عودة ظهور مئات الاحتجاجات القوية عقب إقرار الحكومة المدعومة من الجيش لقانون يحد من المظاهرات في الأسبوع الأخير من تشرين الثاني/نوفمبر، والصراع المستمر على السلطة بين الحكومة وجماعة «الإخوان المسلمين»، الذي ذهب ضحيته أكثر من 1000 قتيل من أنصار مرسي. وفي الأسبوع الماضي فقط، وصل المحتجون الإسلاميون إلى "ميدان التحرير" للمرة الأولى منذ الإطاحة بمرسي هذا الصيف. لكن كان ذلك هو الحال في أغلب أرجاء مصر خلال السنوات الثلاث الماضية: وعلى غرار لعبة نظم المايكروسوفت الحاسوبية "كاسحة الألغام"، فإن الاضطرابات الأكثر انفجاراً عادة ما تحدث في جيوب صغيرة، الأمر الذي يترك باقي أجزاء البلاد آمنة وساكنة، وفي بعض الأحيان هادئة بشكل يدعو للدهشة.
بيد لا ينبغي على المرء أن يخطئ بقيام هدوء نسبي في مصر ويحسبه استقراراً. وبعيداً عن تمثيل الخطوة الأولى نحو تحقيق المستقبل الأفضل الذي وعد به "الربيع العربي" في يوم من الأيام، فهذه فترة فاصلة - فترة قد تطول، حتى إن كانت مضطربة لبعض الوقت، ولكن لا يمكن أن تستمر إلى الأبد. ويرجع ذلك إلى أن نظام مصر الناشئ يحاول الحفاظ على هذا الهدوء من خلال إعادة ترسيخ الوضع الذي كان قائماً - حيث يعيد السلطة إلى أيدي العشائر التي ساندت مبارك على مدى عقود، والتي غاظها بشدة حكم مرسي. لكن النظام الجديد لم يفعل شيئاً لمعالجة العوامل التي حفزت الانتفاضة الأولى قبل ثلاثة أعوام تقريباً: فالنظام ليس لديه حل لاقتصاد مصر الآخذ في التدهور كما أن ليس لديه استراتيجية لدمج الإسلاميين في مصر أو ترضيتهم، وهم قد ذاقوا طعم السلطة في الأمس القريب ومن غير المرجح أن يقبلوا بحملة القمع الحالية إلى ما لا نهاية.
إن محاولة استعادة أسلوب عهد مبارك في مزاولة الأعمال تعكس طبيعة التحالف الذي ساند عزل مرسي في تموز/يوليو. فقد جاءت المعارضة الأكثر أهمية لحكم مرسي خارج القاهرة من العائلات والقبائل الكبيرة في دلتا النيل وصعيد مصر، والتي شكلت قاعدة نظام مبارك واستفادت من نهجه القائم على المواءمات السياسية.
وقد قال لي عبد الله كمال، الصحفي الذي كان مسؤولاً ذات مرة في «الحزب الوطني الديمقراطي» المنحل الذي انتمى إليه مبارك "هذه القوى التقليدية تشكل الكتلة الحرجة للناخبين"، وأضاف هذه العشائر "تظهر تعاطف" تجاه مبارك، وصوتت في الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2012 لصالح رئيس الوزراء الأسبق في عهد مبارك أحمد شفيق، ويرجح أن تدعم وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي حال ترشحه للرئاسة.
لقد كان لهذه العشائر نفوذ سياسي كبير على مدى عقود. وكان يتم تمكينهم من خلال استخدام نظام مبارك للدوائر الانتخابية الصغيرة نسبياً، وهو ما سمح لهم بحشد أفراد عائلاتهم وأنصارهم المحليين للفوز بالانتخابات. ونظراً لأن البرلمان المصري كان إلى حد كبير آلية لتوزيع موارد الدولة، فعادة ما كانت العشائر تستخدم انتصاراتها الانتخابية لتحقيق موارد لدوائرها الانتخابية ومن ثم تعزيز دعمها على المستوى المحلي. بيد أنه عقب انتفاضة 2011، فقد استلزم النظام الانتخابي دوائر انتخابية أوسع بكثير مما أضعف دعم هذه القوى التقليدية. وفي غضون ذلك استغلت الأحزاب الإسلامية وحدتها الداخلية لتحقيق فوز كاسح على الصعيد الوطني.
وعلى الرغم من أن الحكومة سوف تحدد تفاصيل الانتخابات البرلمانية القادمة في مصر، إلا أن هناك توقعات واسعة بأن النظام التالي سوف يضم دوائر أصغر من شأنها إعادة تمكين الشبكات القبلية القديمة. كما أن اللاعبين المؤثرين داخل الدولة المصرية يضغطون من أجل نظام يقلص الدوائر الانتخابية بشكل كبير.
يقول اللواء المتقاعد من وزارة الداخلية محمد رفعت قمصان، الذي كان مسؤولاً بصفة شخصية عن رسم الدوائر الانتخابية في مصر "شاركتُ في بعض المناقشات وشجعتُ على تبني نظام الانتخاب الفردي، لأن أي نظام آخر يرغمنا على إيجاد دوائر انتخابية أكبر، ونحن نريد مناطق أصغر".
وقد أقر قمصان، الذي خدم من قبل في قسم أمن الدولة المسؤول عن مراقبة الإسلاميين وإحباط طموحاتهم السياسية أن التركيبة القبلية الداخلية لكل دائرة هي واحدة من اعتباراته الرئيسية عند رسمه الدوائر الانتخابية. وأضاف "أعلم جيداً الوضع الجغرافي والاجتماعي والقبائل والعائلات. على سبيل المثال، إذا كان لقرية واحدة كبيرة صندوق انتخابي واحد فقط وفقاً للقانون، لكن ذلك غير آمن بسبب المصادمات بين الناس [من قبائل مختلفة]، فيمكنني وضع صندوقين لكي لا تقع مصادمات".
ونتيجة لذلك، فإن قادة القبائل أصبحوا مرة أخرى لاعبين رئيسيين في السياسات الانتخابية المصرية. هذا وتخطط الأحزاب المصرية غير الإسلامية بالفعل للتودد إليهم بشكل طموح. على سبيل المثال، فإن "حزب المؤتمر" الذي أسسه وزير الخارجية السابق عمرو موسى في وقت سابق من هذا العام هو بشكل أساسي تحالف مكون من أحزاب صغيرة نسبياً تمكنت من الفوز بمقاعد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وكان ذلك يرجع بصفة كبيرة إلى العلاقات القبلية. أما تلك الأحزاب التي لا تكاد تحظى بأي دعم شعبي، مثل حزب "الدستور" من يسار الوسط والأحزاب "الديمقراطية الاجتماعية المصرية"، فإنها تعمل من خلال أفرادها المنتسبين للعشائر للفوز بدعم القبائل الرئيسي.
ويقول كمال المسؤول السابق في «الحزب الوطني الديمقراطي» "إن [القبائل] تجدد دمائها، فالشخص الذي ترشح للانتخابات البرلمانية منذ سنوات لن يترشح الآن، لكن سيترشح ابن عمه". وبعبارة أخرى، عادت الطريقة القديمة لممارسة الشؤون السياسية.
ومن خلال كسب رضا الشبكات القبلية القديمة، يتطلع النظام الناشئ الجديد إلى تعزيز مستوى من الهدوء لا تستطيع جماعة «الإخوان» أن تحققه مطلقاً، وهي «الجماعة» التي تنظر إليها العشائر باعتبارها عدوها اللدود. لكن هناك سببان رئيسيان يوضحان أن هذه الاستراتيجية سوف تتعثر على المدى الطويل.
أولاً، أن عودة نظام المواءمات السياسية لن يحل المشاكل الأساسية التي دفعت إلى انتفاضة 2011 وساهمت كذلك في الانتفاضة المناهضة لمرسي هذا الصيف: وتشمل هذه ارتفاع معدلات بطالة الشباب وانتشار المصاعب الاقتصادية. وفي الواقع تُنكر الحكومة الحالية تماماً حتى أن هناك مشكلة حقيقية. ويقول مسؤول من قسم السياسة في وزارة المالية "نحن أقل قلقاً بشأن الاقتصاد، فالأساسيات متوفرة".
وفي حين يعزي المسؤولون المصريون بشكل صائب المصاعب الاقتصادية التي تمر بها البلاد إلى حالة عدم الاستقرار السياسي خلال السنوات الثلاث الماضية، يبدو أن تقييمهم بأن مصر على وشك انتعاش اقتصادي يستند إلى مجموعة من الافتراضات المقلقلة التي لا تقوم على بيانات. فقد أخبرني نائب رئيس الوزراء زياد بهاء الدين بأنه ما إن تعود الأمور إلى طبيعتها، فستكون الحكومة قادرة على تمويل ميزانيتها المتضخمة بدون الاضطرار إلى الاعتماد على سخاء دول الخليج المنتجة للنفط وذلك سيتحقق جزئياً عن طريق عودة السياحة. وأضاف "لا نستطيع أن نفترض أن المستوى السياحي الحالي سوف يستمر في مصر. يجب أن نفترض أن هذا المستوى سوف يرتفع".
بيد أن الأرقام غير منطقية. إذ تشير آخر البيانات أن الاحتياطيات النقدية في مصر تصل إلى أقل من 19 مليار دولار بقليل - وهذا على الرغم من تعهد ضخم يبلغ 12 مليار دولار من دول الخليج عقب الإطاحة بمرسي مباشرة، وقد تم بالفعل تسليم 7 مليارات دولار منها. وفي غضون ذلك، وبدلاً من استخدام الأموال النقدية لإصلاح نظام دعم الغذاء والوقود الذي يشكل شريحة كبيرة من النفقات الحكومية، فإنها تُستخدم لزيادة معدلات التوظيف الحكومية ورفع الحد الأدنى للأجور لموظفي الحكومة وإكمال مشاريع البنية التحتية. كما أن الدستور الجديد سوف يساعد على الحد من المرونة المالية للحكومة: فوفقاً للمسودة المنشورة مؤخراً، سيتعيّن على الدولة إنفاق 3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية، و4 بالمائة على التعليم، و2 يالمائة على التعليم الجامعي، و1 بالمائة على الأبحاث العلمية.
وبعبارة أخرى، فإن المسار الحالي لا يبشر بخير لبلد لا يستطيع الاعتماد على سخاء الخليج إلى الأبد. وهذه السياسات التوسعية لن تستطيع تحقيق السلام الاجتماعي لفترة طويلة: وحسبما أقر بهاء الدين فإن الأمر سوف يستغرق الكثير من الوقت قبل أن يصل مردود استثمارات البنية التحتية إلى المصريين ذوي الدخل المنخفض، كما أن الحكومة تواجه صعوبات في السيطرة على أسعار الغذاء وتطبيق الزيادات في الحد الأدنى للأجور. لذا فعلى الرغم من أن الهاوية الاقتصادية في مصر هي أبعد مما كانت عليه خلال الأسابيع الأخيرة من عهد مرسي، حينما تفاقم نقص الغاز والكهرباء في أشد فترات الصيف حراً في مصر، إلا أن الهاوية لا تزال بالانتظار على مسافة أبعد لأن المستوى الحالي من الإنفاق غير قابل للاستدامة.
والسبب الثاني الذي يوضح أن الهدوء الحالي في مصر لن يُترجم إلى استقرار على المدى الطويل يتعلق بالأحزاب الإسلامية التي كانت تسيطر على الشؤون السياسية المصرية بالأمس القريب. وهذه الأحزاب تتقبل النظام السياسي الناشئ على ما هو عليه - وهو كونه محاولة للحد من نفوذهم السياسي إن لم يكن القضاء عليه نهائياً - ومن ثم قد يمارسون السياسة من خلال أساليب أخرى أكثر زعزعة للاستقرار.
وهذا ينطبق بصفة خاصة على جماعة «الإخوان». فقد رفضت الحركة الإسلامية "خارطة الطريق" التي رسمتها الحكومة بعد الإطاحة بمرسي وهي شرط الحكومة لإنهاء القمع ضد «الجماعة»، ولا تزال تؤمن بأن مرسي سيعود للسلطة.
وقد أخبرني أحد قادة «الإخوان» مضخماً من أعداد القتلى التي أوردتها التقارير بمعدل خمسة أضعاف "في رقبة السيسي 5000 قتيل مصري، لذا ليس من المعقول أن يكمل حياته السياسية. فبنغلاديش تحاكم الآن الانقلابيين، كما فعلت تركيا الشيء ذاته حتى بدون ثورة ضد الانقلاب مثلما يحدث هنا في مصر".
وزعيم «الإخوان» سالف الذكر يقصد بقوله "الثورة ضد الانقلاب" الاحتجاجات الصغيرة الموالية لمرسي التي استمرت على مدار شهور. بيد أن ثقة الجماعة في أنها ستفوز، رغم ما تنطوي عليه أوهام، تعكس دوافعها لمقاومة الوضع الراهن بدلاً من القبول به.
ورغم أن الأحزاب الإسلامية الأخرى في مصر لا تشارك «الجماعة» حماسها للمواجهات، إلا أنها لا تثق بالنظام الناشئ هي الأخرى. وقد قال عمرو جمال أحد قادة "حزب الوطن السلفي" ومقره في قنا، والذي تحالف حزبه مع مرسي واحتج على الإطاحة به "لن أترشح". وأضاف "إذا مرروا الدستور - وإن شاء الله لن يفعلوا - فلن تكون هناك انتخابات حقيقية".
بل إن "حزب النور السلفي"، الذي شارك في المرحلة الانتقالية عقب مرسي ويبدو أنه حاز على قبول الجيش كلاعب سياسي، لا يثق في النظام القادم. ويقول زعيم "حزب النور" في "محافظة الشرقية" والبرلماني السابق جمال متولي إن النظام الحالي "يعود إلى عهد مبارك، والتفسيرات لذلك غير منطقية".
وبينما قال متولي إن "حزب النور السلفي" ينوي مواصلة المشاركة في المرحلة الانتقالية "للحفاظ على الهوية الإسلامية للشعب المصري" إلا أنه أقر - على عكس جماعة «الإخوان» - أنه ليست له أية سيطرة على أعضاء الحزب من عامة الشعب، ومن ثم لا يستطيع أن يضمن تصويت الأعضاء في العملية السياسية المقبلة.
ولا ينبغي للفاعلين المؤثرين الجدد في مصر إقصاء الإسلاميين أو توقع تراجعهم في هدوء عن الساحة السياسية بعد أن ذاقوا طعم السلطة الحقيقي للمرة الأولى. ورغم أن الحركات الإسلامية خسرت الكثير من الدعم الشعبي خلال العام الماضي، إلا أنها لا تزال منظمة بشكل جيد وتحظى بقواعد متماسكة ومحفزات أيديولوجية قوية. وهذا يبرز الاحتمالية القوية بأن يخرجوا نشطاء هذه الحركات إلى الشوارع أو يتبنوا العنف، وكلاهما يحمل في طياته نذير سوء على استقرار مصر على المدى الطويل.
وبطبيعة الحال، يجب الإقرار بأن إشراك الإسلاميين في العملية ليس وصفة لضمان الاستقرار كذلك. فخلال السنة التي قضاها مرسي في السلطة، أظهر الإسلاميون أنهم مستعدون لاستغلال المؤسسات السياسية المصرية لصالحهم مثلما كان يفعل خصومهم في عهد مبارك. وعلاوة على ذلك، فإن رغبة الإسلاميين الصريحة في السيطرة على حياة المصريين تجعل الاختيار بين استقرار مصر مع إشراك الإسلاميين وعدم استقرار مصر مع إقصاء الإسلاميين خياراً زائفاً، لأنه لا يوجد شيء محدد من شأنه أن يفضي إلى الاستقرار مع حكومة ستفرض حظراً على ارتداء البيكيني، ناهيك عن تحريض صفوفها ضد الشيعة.
وفي النهاية، فإن الصراعات الأيديولوجية في مصر ما هي إلا عروض جانبية. فهناك صراعان متداخلان على السلطة سوف يقرران مصير البلاد: الصراع الأضيق بين جماعة «الإخوان» والجيش الذي عزلها عن السلطة، والقتال الأوسع بين النظام القبلي المباركي القديم والنظام الإسلامي الذي كان قد شرع لتوه في تعضيد سلطته. وهناك مخاطر وجودية لكلا الجانبين في هذين الصراعين، ولهذا السبب فإن هدوء مصر الحالي - الذي يشوبه الاضطراب - لا ينبغي أن يخطئه المرء ويحسبه تقدماً، ناهيك عن كونه استقراراً.

إريك تراجر هو زميل واغنر في معهد واشنطن.
Previous Post
Next Post

About Author

0 comments: