Uncategories
حزب الله والتحولات العربية: المواقف والمنطلقات
حزب الله والتحولات العربية: المواقف والمنطلقات
حزب الله والتحولات العربية: المواقف والمنطلقات
16/12/2013
نشرت هذه الورقة عبر موقع “المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق”, 01\08\2013
مقدمة:
يمر الشرق الأوسط في لحظة إعادة تشكل تاريخية في ظل جملة تحولات وصراعات أبرزها ما يعرف “بالربيع العربي” الذي أدى لسقوط أنظمة عربية ( مصر , تونس, ليبيا) وتغيير جزئي في أنظمة أخرى ( اليمن) وإستمرار المواجهة في دول أخرى ( سوريا, البحرين). ولكن حتى في الدول التي شهدت نشوء أنظمة جديدة لا زالت الإضطرابات والصراعات تسيطر على المشهد السياسي, إنها مرحلة إنتقالية تمر بها المنطقة بأسرها والتي ستحتاج لأشهر طويلة قبل أن تتبلور محصلتها النهائية. من أبرز ما سيحدد شكل هذه المحصلة هي مواقف وسياسات القوى الإقليمية والدولية تجاه هذه التحولات, وهنا تبرز أهمية فهم موقف ومقاربة حزب الله من هذه الأحداث, بإعتبار أن الحزب بما يملك من نفوذ وتأثير وقوة يجعل منه فاعل سياسي ذا تأثير إقليمي وازن.
إذاً كيف تعامل حزب الله مع التحولات العربية؟ ما منطلقات موقف الحزب من هذه التحولات؟ كيف غيرت هذه التحولات في البيئة الإستراتيجية للمنطقة من منظار مشروع الحزب في مقاومة إسرائيل؟ ما هي الفرص والتحديات التي تثيرها هذه التحولات بالنسبة لحزب الله؟ تهدف هذه الورقة الى إستكشاف موقف حزب الله من التحولات العربية التي عرفت بإسم “الربيع العربي” التي إنطلقت عام 2011 في تونس ثم مصر وإمتدت لاحقاً الى جملة دول عربية أخرى. سيجري التركيز على فهم خلفيات موقف الحزب من هذه التطورات والمعايير التي إعتمدها لتحديد موقفه منها, ثم مراقبة التغيير في رؤية الحزب لهذه الأحداث كلما تقدمت وتعمقت وتمظهر شكلها وأدوار القوى الخارجية فيها.
أولاً: حزب الله والنظام الرسمي العربي: مقاربة تاريخية
في مرحلة ما قبل التحولات العربية, تميزت علاقة حزب الله مع أغلب الأنظمة العربية بحالة من التنافر والخصومة, وذلك لسبب جوهري هو تحالف وتبعية هذه الأنظمة للمشروع الأميركي في المنطقة والذي يعتبره حزب الله مشروع هيمنة وإحتلال يجب مواجهته من خلال مقاومة إسرائيل بداية. منذ نهاية الحرب الباردة والشرق الأوسط يشهد إنقسام المنطقة بين محورين, محور تقوده الولايات المتحدة الأميركية وتنخرط فيه “إسرائيل” ومعظم الأنظمة العربية, ومحور تقوده إيران وتنخرط فيه حركات مقاومة من لبنان وفلسطين إضافة الى سوريا. واجه حزب الله خلال هذه الفترة عدة حروب عسكرية بوجه “إسرائيل” وجميعها تمت بغطاء عربي رسمي مباشر, إذ إعتقد الأميركيون أن سقوط الإتحاد السوفياتي خلق البيئة الإقليمية المناسبة لإقامة إتفاقيات “سلام” تنهي الصراع العربي الإسرائيلي وفقاً للشروط والمصالح الأميركية.
مثلاً, في نيسان 1996 وقع عدوان “عناقيد الغضب”[1] بغطاء من المؤتمر الدولي الشهير في شرم الشيخ في مصر والذي دعا الى “محاربة الإرهاب” من خلال “دعم وتنسيق الجهود على المستويات الثنائية والإقليمية والدولية” بهدف “تعزيز عملية السلام في الشرق الأوسط”.[2] أما المواجهة الأقسى فكانت في عدوان تموز 2006 الذي إستمر لمدة 33 يوماً والذي حظيت فيه “إسرائيل” بغطاء أميركي – عربي رسمي واضح, والذي إنعكس بتصريحات المسؤولين العرب الذين حملوا الحزب مسؤولية الحرب وإعتبروا أن قيامه بأسر جنود إسرائيليين لمبادلتهم مع اسرى لبنانيين كانت بمثابة المغامرة, وقد إنعكس الموقف العربي إنقساماً سياسياً حاداً في الداخل اللبناني بين القوى المرتبطة بالشروع الأميركي والقوى الوطنية الداعمة للمقاومة. مع العلم أن أغلبية شعبية كبيرة عابرة للطوائف أيدت وساندت موقف حزب الله أثناء الحرب ومقاومة العدوان.[3]
رغم عداء الأنظمة العربية الرسمية إلا أن حزب الله كان يلتزم بمبدأ ثابت وهو عدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول, من خلال دعم المعارضة او إفتعال أحداث أمنية او التشجيع عليها او حتى إنتقاد الممارسات الإستبدادية لهذه الأنظمة. حرص حزب الله على تكريس أولوية صراعه مع إسرائيل وقام بتركيز كافة موارده على هذا الصراع. وفي ذات الوقت الذي تجنب فيه الأنظمة الرسمية إلا أنه حرص على التواصل مع الرأي العام العربي من خلال علاقات واسعة مع الأحزاب العربية والشخصيات البارزة والمؤثرة والتواصل النقابي والطلابي والإجتماعي والإعلامي رغم القيود التي كانت تحاول الأنظمة العربية ممارستها لعزل حزب الله. ساهمت إنجازات حزب الله في المقاومة وشخصية أمينه العام في نمو ملحوظ لقوة حزب الله الناعمة التي مكنته من الـتأثير والنفاذ الى عقول وقلوب ملايين العرب والمسلمين الذي كانوا يعيشون مشاعر الإحباط في اوطانهم.
هل يمكن الربط بين جهود حزب الله في المقاومة وبين التحولات العربية؟ شكلت مرحلة ما بعد العام 2000 بداية التراجع الفعلي للمشروع الأميركي- الإسرائيلي في المنطقة, من خلال إنسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000, ثم الإنسحاب من غزة, ثم المأزق الأميركي في العراق, الى الهزيمة المدوية عام 2006 في حرب لبنان. كانت حرب 2006, حرباً إسرائيلية بالوكالة عن الأميركي في محاولة لضرب حزب الله لتخفيف الضغط عن الولايات المتحدة في العراق ومحاولة خلق توازن قوى إقليمي يتيح لواشنطن تنشيط مشروع الهيمنة من جديد.
شكلت هزيمة 2006 نهاية النظام الإقليمي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة في المنطقة منذ بداية التسعينات, وكان من تداعيات ذلك فقدان النظام الرسمي العربي الملحق بواشنطن أبرز دعائم وجوده ولم يكن الأمر بحاجة إلا لشرارة واحدة, أشعلها البوعزيزي بجسده في تونس. إذاً لو لم يتمكن حزب الله كجزء من محور المقاومة في المنطقة من هزيمة المشروع الأميركي- الإسرائيلي لإستمر النظام الرسمي العربي التابع قوياً, متماسكاً, ومدعوماً بالقوة الأميركية ولكان من الصعب الخروج عليه وإطاحته بهذا الشكل.
ثانياً: بداية التحولات: تونس ومصر
مع سقوط نظام بن علي في تونس ولاحقاً نظام مبارك في مصر, وجد حزب الله في هذه التحولات فرصة تاريخية خاصة لما يشكله نظام مبارك بالنسبة لأمن إسرائيل والمشروع الأميركي. كان تأييد حزب الله لهذه الثورات ينطلق من بعدها الشعبي الذي أسقط أنظمة إستبدادية عميلة للغرب, مع الأمل ان هذه الشعوب ستقيم أنظمة جديدة داعمة لمشروعه في المقاومة او غير معادية له على الأقل, لا سيما في ظل الروابط التاريخية مع القوى الثورية الأساسية لا سيما الإسلامية والقومية منها.
مع سقوط نظام بن على في تونس بتاريخ 14\1\2011 سارع حزب الله في اليوم التالي الى إصدار بيان رسمي عبر فيه “عن افتخاره واعتزازه بانتفاضة الشعب التونسي التي تسطر دربه نحو الحرية المأمولة …. ما يدل على أن الحقيقة تنبع من الشعب وتتجسد بإرادته الحرة وليس من خلال الاستقواء بالخارج”. وببيان مماثل بتاريخ 11\2\2011 بارك حزب الله للشعب المصري “بالنصر التاريخي المجيد الذي حققته ثورته الرائدة”, والتي إعتبرها الحزب نقطة التحول الأبرز في كل ما جرى, وهذا ما يتضح من قول السيد نصرالله للمصريين أنهم” محط آمالنا جميعاً وأن موقعهم وموقفهم تتعدى تأثيراته حدود مصر لتصل إلى كل العالم العربي والإسلامي”.[4]
لإستبيان موقف حزب الله من تلك التحولات في بدايتها, يمكن الرجوع الى خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في المهرجان الخطابي الذي أقامه الحزب تحت عنوان “الإحتفال التضامني مع الشعوب العربية”[5] وبالتحديد في تونس, مصر, اليمن, البحرين وليبيا. أعلن السيد نصرالله بوضح موقف الحزب بقوله لهذه الشعوب ” نحن معكم، ندعمكم، نؤيدكم… وحاضرون لنمدّ يد العون والمساعدة في كل ما قد تقتضيه مصلحتكم ومصلحتنا وقدراتنا وإمكاناتنا أن نكون إلى جانبكم”. بداية ركز السيد على نفي ان تكون واشنطن هي المحركة لهذه الثورات لأنها قامت ضد انظمة “منسجمة مع أمريكا، أنظمة قدمت وتقدم خدمات للمشروع الأمريكي، أنظمة لا تشكل أي تهديد للسياسة الأمريكية”, لذا ليس منطقي ان تزيلها واشنطن في ضوء معرفتها بالموقف السلبي والمعادي لها في الرأي العام العربي. أما لو أن هكذا تحركات وقعت في انظمة معادية لواشنطن لكان من الممكن أن تكون واشنطن هي من تسببت بها.
ركز حزب الله في هذه المرحلة أيضاً على التحذير من الدور الأميركي الساعي للتاُثير على لحظة التحول لا سيما في ظل ترداد واشنطن إحترامها لمطالب الشعوب وحقوقها السياسية. أوضح السيد نصر الله في خطابه على أن واشنطن حاولت بداية منح بعض الوقت لحلفائها للتخلص من الثورة ثم عندما فشلوا تخلت عنهم, وبحسب السيد نصر الله هناك “خلفيات أخرى للتدخل الأميركي من أجل تحسين الصورة، من أجل إدارة الأزمة، من أجل ضمان مجيء بدائل مناسبة للمشروع الأميركي حيث تسقط الأنظمة التابعة أو طمعاً في حقول النفط”. وكرر السيد موقفه بأنه على الشعوب العربية لتحكم على صدق الإدعاءات الأميركية أن تنظر لسياسة واشنطن تجاه القضية الفلسطينية, حيث تنحاز واشنطن بالكامل “لإسرائيل” ومصالحها.
ثالثاً: البحرين وليبيا: التدخل الخارجي والمذهبية
كان للحزب موقف أكثر تحديداً في حالتي ليبيا والبحرين, ففي الحالة الليبية كانت العلاقة مع نظام القذافي مقطوعة ومتوترة بسبب قيام القذافي بخطف السيد موسى الصدر[6] في ليبيا منذ 1978 من دون أن يظهر مصيره حتى الآن. كان موقف الحزب داعماً من اللحظة الاولى للثوار الليبيين ولكن تدخل الناتو الى جانب الثوار كان موضع قلق من الحزب, وإن كان الحزب تجنب توجيه إدانة مباشرة للثوار لقبولهم بهذا الدعم, إلا انه ركز على التحذير من مخاطر هذا التدخل ودعا الثوار الى المحافظة على إستقلالهم وسيادتهم الوطنية, وأنهم “أمام استحقاق عظيم بالعمل للحفاظ على ثرواته من أن تنهبها أطماع الدول الكبرى”.[7] وقد تعرض الحزب لإتهامات متكررة بمساندة الثوار ميدانياً والقتال الى جانبهم, وهو ما نفاه الحزب على لسان امينه العام, سواء فيما يخص ليبيا او اليمن وحتى مصر.[8]
قضية أخرى ذات طبيعة حساسة هي البحرين بسبب التركيبة المذهبية للسكان ذو الأغلبية الشيعية. أعلن حزب الله منذ البداية تضامنه مع مطالب الحركة الإحتجاجية التي طالبت بإصلاح النظام ( وليس بإسقاطه كما في البلدان الأخرى) ودعا الحزب ولا يزال النظام البحريني الى الإستجابة لمطالب المحتجين المشروعة بالحوار بعيداً عن العنف. ولكن النظام اصر على إستخدام العنف وإستعان بقوات سعودية وخليجية لقمع الإنتفاضة التي جرى الترويج على أنها إنتفاضة شيعية بتحريض من حزب الله وإيران. نفى الحزب بشكل متكرر المزاعم عن أي دور له في الإحتجاجات, وقد رفض السيد نصر الله إتهام الحراك بأنه مذهبي او طائفي معتبراً ذلك الإتهام “سلاح العاجز” في مواجهة المطالب المحقة. وقد أشاد الحزب مراراً بعدم إستخدام المعارضة للعنف وتمسكها بسلمية تحركاتها رغم الوحشية التي مارسها النظام.
خلال هذه المرحلة يمكن إستخلاص جملة مبادىء إعتمدها الحزب تجاه التحولات العربية:
1- تأييد إنتفاضات الشعوب على الأنظمة الخائنة والمستبدة, بإعتبارها حقاً طبيعياً مشروعاً.
2- التشجيع على الإبتعاد عن العنف قدر المستطاع والحفاظ على الطابع السلمي للإحتجاجات الشعبية.
3- الرفض المطلق لفكرة التدخل العسكري الخارجي في بلدان المنطقة.
4- التحذير من محاولات الولايات المتحدة الدخول على خط هذه التحركات لحرفها عن مسارها التحرري, نحو أشكال جديدة من التقسيم او التبعية أو الإستعمار.
5- تشجيع إطلاق مبادرات وساطة بين المعارضة والسلطة عبر الدول والمؤسسات الإقليمية ذات المصداقية , حيث دعا السيد نصر الله في خطاب “التضامن مع الشعوب العربية” الى مبادرات مماثلة في اليمن والبحرين حينها.
6- التمييز بين الانظمة المقاومة والممانعة وتلك التابعة لواشنطن, ففي الأنظمة الأولى يجب السعي لإيجاد حل بين النظام والمعارضة يحقق المطالب الشعبية ويحفظ دور النظام في الصراع, وهذا الموقف كان سابقاً لإندلاع الأزمة السورية. ففي خطاب “التضامن مع الشعوب العربية” قال السيد نصرالله ما حرفيته “أنا أفهم عندما يكون هناك نظام ممانع ومقاوم وتحصل بعض المشكلات في ذاك البلد أن نقف ونقول لأهل ذلك البلد أن يصبروا ويقاربوا المسائل بطريقة مختلفة، عالجوها بالحوار, أو إستعينوا بصديق”.
رابعاً: حزب الله والأزمة السورية: التحدي الإستراتيجي
شكل إندلاع الأزمة في سوريا التحدي الأبرز لحزب الله في التحولات العربية, كون النظام هو حليف إستراتيجي للمقاومة فضلاً عن التماس الجغرافي, فسوريا هي مرتكز أساسي في محور المقاومة وتؤمن عمق إستراتيجي لها وطريق إمداد وداعم سياسي في المنطقة. لذلك ومنذ الأيام الأولى لإندلاع الأحداث سارع بعض المحللين الأميركيين للحديث عن الفرصة التاريخية للإنقضاض على سوريا لإخراجها من محور المقاومة “ولإحداث تغيير في البلد الذي يتحالف بشكل مستمر ضد واشنطن”.[9]
وفور إنطلاق التظاهرات في بعض المناطق في منتصف آذار 2011, بادر المعارضون السوريون ومعهم وسائل إعلام عربية الى إتهام الحزب بإرسال مقاتلين الى سوريا لقمع الإحتجاجات وقتل المعارضين, قبل أن يكون الحزب قد ادلى بأي موقف تجاه الأحداث.[10] كان موقف الحزب في البداية بأن للمتظاهرين مطالب محقة يمكن النظر إليها من خلال الحوار والإبتعاد عن العنف, وقد كشف السيد نصر الله في وقت لاحق بأن الحزب حاول القيام بوساطة بين الطرفين ولكن المعارضة رفضت ذلك بإصرارها على إسقاط النظام.[11] وبعد شهرين من بداية الازمة اكد الحزب أن موقفه من اي تحرك شعبي يستند الى شرطين, هما بحسب السيد نصر الله:[12]
أولاً, موقف وموقع هذا النظام العربي من مسألة الصراع العربي الإسرائيلي ودوره في قضية الأمة المركزية فلسطين، الشرط الثاني هو عدم وجود أي أفق وأمل في الإصلاح على المستوى الداخلي. وعليه “وإنطلاقا من هاتين الحيثيتين نحن نتخذ موقفنا، نحن معاييرنا واضحة، مكيالنا واضح، لا نكيل بمكيالين، وليست لنا معايير متفاوتة”. ثم حدد السيد بشكل خاص منطلقات موقف الحزب من ما يجري في سوريا: دعم سوريا للبنان والمقاومة والقضية الفلسطينية, موقف سوريا من المشروع الأميركي وإسرائيل, إنعكاس ما يجري في سوريا على لبنان, مقررات إتفاق الطائف, والأهم أنه لا زالت هناك أغلبية شعبية واضحة داعمة للنظام. وبناء على هذه المنطلقات, أكد السيد على وجوب الحرص على سوريا نظاماً وشعباً وجيشاً, ودعا السوريين لإعطاء فرصة للقيادة للقيام بالإصلاحات عبر الحوار, وان لا يتدخل اللبنانيون بالصراع الا ايجابا إن امكن , وثم رفض العقوبات الغربية على سوريا.
ومع تمادي الأزمة أكد الحزب على مواقفه هذه إلا ان مسار الأحداث كان يشهد إتجاهين متعاكسين, إذ كلما ابدى النظام إيجابية في الإصلاح والإستجابة للمبادرات الخارجية كانت المعارضة تميل اكثر نحو التسلح والعنف ورفض أي دعوة للحوار والإرتباط بالخارج وإستعمال خطاب مذهبي معادي للمقاومة. يعود سبب ذلك الى تمكن الولايات المتحدة والخلجيين والأتراك من التأثير بمرور الوقت على شرائح متزايدة من المعارضة عبر المال والتسليح والإعلام التحريضي الى درجة انخرطت معظم المعارضة الخارجية بالكامل في بالأجندة الأميركية. بل ان إتصالات ولقاءات علنية جمعت جهات وشخصيات معارضة مع دبلوماسيين وإعلاميين إسرائيليين كانت تكشف الإتجاهات السياسية للمعارضة السورية لا سيما الخارجية منها[13], حيث أن معارضة الداخل وخصوصاً ما بعرف بهيئة التنسيق الوطنية حافظت على مواقف مستقلة رافضة للتدخل الأجنبي وإستعمال العنف من طرفي الأزمة مؤكدة على الحفاظ على موقع سوريا في مشروع المقاومة.[14]
خامساً, حزب الله في سوريا: نقطة تحول
إستمر موقف حزب الله بعد مرور اكثر من سنة ونصف على حاله, وحاول خلال هذه الفترة تحييد لبنان عن تداعيات الإنفجار السوري, وعليه تفهم الحزب مبدأ “النأي بالنفس” الذي اقرته حكومة ميقاتي التي كان جزءً منها. وإقتضى هذا المفهوم بأن لا يكون لبنان ممراً او مقراً للسلاح والمقاتلين الى سوريا, وأن لا يتخذ لبنان موقفاً إشكالياً في المحافل الدولية والإقليمية بشأن الأزمة السورية. ولكن رغم الإلتزام الرسمي النسبي بهذا المبدأ إلا ان القوى السياسة المعادية لسوريا (قوى 14 آذار وحركات سلفية) إستمرت بتهريب السلاح والمقاتلين من لبنان الى الداخل السوري طوال فترة الأزمة.[15]
إزدادت شراسة الحملة الإعلامية على الحزب مع تفاقم الأزمة بشكل غير مسبوق عبر عشرات الفضائيات (الجزيرة والعربية تحديداً) والصحف والمواقع الإلكترونية, التي ركزت على إعطاء صبغة مذهبية للصراع, وإتهام حزب الله بإرسال قوات لقتال المعارضة ومساندة قوات الجيش السوري. مع الوقت ظهرت قضية المقاتلين التكفيريين والاجانب الى جانب المعارضة السورية وهو ما شكل تحولاً بارزاً في الأزمة, وترافق ذلك مع قيام هذه الجماعات بمجازر مروعة بحق مؤيدي النظام والأقليات الدينية, فضلاً عن خطف أحد عشر لبنانياً مسلماً شيعياً قادمين من زيارة الاماكن المقدسة عند الحدود التركية وجرى إستخدام القضية لإستفزاز وإبتزاز الحزب وبيئته الشعبية, ولا يزال تسعة من المخطوفين في الأسر حتى اللحظة.
ثم برز تطوران خطيران خلال الأشهر الأخيرة, الأول محاولة الجماعات المتشددة مهاجمة المقامات المقدسة الشيعية في دمشق مما انتج إحتقاناً مذهبياً في كل المنطقة, والثاني قيام مجموعات من المعارضة السورية بمهاجمة قرى لبنانية داخل الأراضي السورية يسكنها شيعة ومسيحيون بالتحديد, ومحاولة القيام بعمليات تطهير جماعية في هذه المناطق.[16] هذه القرى اللبنانية تواجد بين سكانها عناصر ومؤيدون لحزب الله وفي ظل تعرضهم للهجمات قام حزب الله بدعم المتطوعين لحمايتهم من الهجمات في ظل عجز الدولة اللبنانية عن القيام بذلك رغم انه دعا الدولة اكثر من مرة للتحرك لحماية هولاء المواطنين. بالتوازي بدأت مناطق المقامات الدينية في الشام تشهد تواجداً محدوداً لمقاتلين مدعومين من الحزب, وذلك بالنظر الى القيمة الدينية والوجدانية لهذه المقدسات والخوف من الفتنة الكبرى التي ستنشأ إن نجح المتشددون بالتعرض لها, كما قال السيد نصرالله.[17]
شكل خطاب الثلاثون من نيسان 2013 مفصلاً أساسياً في موقف الحزب من الأزمة السورية إذ أعلن السيد نصرالله أنه “خلال عامين وما حصل فيها من أحداث ومواقف دولية واميركية وأوروبية واسرائيلية واقليمية ومعارضة سورية وغيرها، وصلنا الى استنتاج قاطع هو أن الهدف مما يجري في سوريا لم يعد فقط إخراجها من محور المقاومة كما قلنا في البداية … بل الهدف وبشكل قاطع هو تدمير سوريا كدولة وشعب ومجتمع وجيش”. وقال بشكل واضح ” إن لسوريا في المنطقة والعالم اصدقاء حقيقيين لن يسمحوا لها ان تسقط بيد اميركا واسرائيل او الجماعات التكفيرية, وهذه معلومات وليس تكهنات”.[18]وكان سبق الخطاب نشر موقع إعلامي تابع للحزب صورة حديثة للقاء بين السيد نصر الله ومرشد الجمهورية الإسلامية السيد على الخامنئي, وكذلك لقاء مع مساعد وزير الخارجية الروسي السيد بوغدانوف في ظل تصاعد التنسيق والتعاون بشكل ملحوظ بين روسيا وحزب الله من باب الأزمة السورية بالتحديد.[19]
وبعد الخطاب بأيام, شن الطيران الإسرائيلي هجوماً جوياً على عدة أهداف داخل دمشق للمرة الثانية في ظل الأزمة, وهو ما عده حزب الله دليلا إضافياً, على طبيعة المعركة في سوريا. ولاحقاً في مناسبة عيد التحرير في 25-5-2013 أعلن السيد نصر الله انه “لم تعد القضية مسألة شعب ثائر على نظام وليس موضوع اصلاحات … نحن نعتبر ان سيطرة الجماعات المسلحة على سورية او على محافظات سورية محددة وخصوصاً تلك المحاذية للبنان هي خطر كبير على لبنان وعلى كل اللبنانيين”. واضاف السيد نصر الله إن ” سورية ظهر المقاومة وسندها والمقاومة لا تستطيع ان تقف مكتوفة الايدي ويكشف ظهرها ويكسر سندها والاّ نكون أغبياء”, لأنه حينها ستدخل إسرائيل الى لبنان وتفرض شروطها. عند هذه المرحلة إعلن الحزب ان المعركة في سوريا هي معركته وسيتواجد فيها “بقدر ما يستيطع وأينما كان ضرورياً”[20]. وقد تواترت الأنباء بعد ذلك من تمكن الجيش السوري بمؤازرة من حزب الله من إستعادة مدينة القصير وكامل ريفها على الحدود اللبنانية حارماً المسلحين من نقطة إرتكاز أساسية وممر حيوي لتهريب السلاح من لبنان.
إذا وبمرور الوقت تدرج موقف حزب الله تجاه الأزمة السورية بفعل تبلور صورة الصراع وماهية اللاعبين وأهدافهم, وهو ما دفع الحزب للتدخل تدريجياً في الدخول الى الأزمة السورية الى أن أصبح الآن جزء أساسياً من المعادلة الميدانية. يهدف الحزب بتدخله الميداني الى هدف رئيسي وهو فرض ميزان قوى على الأرض لدفع المعارضة وداعميها نحو طاولة المفاوضات في مؤتمر جنيف2 والتوقف عن المراهنة على إمكانية إسقاط النظام بالقوة العسكرية.[21]
خاتمة:
تمكن خصوم حزب الله من تحوير الأزمة السورية لخلق تعبئة مذهبية واسعة ضمن الاوساط السنية بوجه حزب الله, وهو ما حد من قدرة حزب الله على الإقناع والتأثير داخل تلك الأوساط في هذه اللحظة الإنتقالية الهامة. ويدرك حزب الله جيداً حساسية هذه الإشكالية,الى درجة يكاد لا يخلو خطاب للسيد نصر الله من الإشارة لهذه النقطة, إضافة الى السعي الإعلامي والسياسي والثقافي الحثيث للحزب لمحاربة هذه الظاهرة.
وعلى الرغم من الأزمة السورية لا زال حزب الله مؤيداً للإنتفاضات العربية وينظر إليها بإيجابية, أي لم يدفعه الحدث السوري الى معاداة تلك الإنتفاضات بل رسم خطاً واضحاً بين ما يجري في سوريا وتلك الإنتفاضات. يُقارب حزب الله الصراع في سوريا على انه ذا بعد سياسي وإستراتيجي وليس مذهبي أو إثني, وعليه يؤكد الحزب على أهمية الإصلاح السياسي في سوريا بإعتباره شاناً داخلياً, مع رفض التدخل الغربي والعنف الذي لا علاقة له بالديموقراطية بل لنقل سوريا من موقع الى آخر يخدم المشروع الأميركي – الإسرائيلي في الشرق الأوسط.
بالمقابل أتاحت هذه التحولات جملة فرص, أسقطت أنظمة مفصلية في المشروع الأميركي من دون ان تنجح واشنطن حتى الان في إيجاد بديل مستقر, التمكن من حفظ موقع سوريا في المعادلة الإقليمية رغم الأضرار التي لحقت بقوتها وفاعليتها, الحضور القومي للتيارات القومية والوطنية في المنطقة العربية والتي تربطها علاقات ممتازة بحزب الله, لا سيما التيارات الناصرية, وجود شرائح أساسية من أحزاب وشخصيات إسلامية معتدلة ترفض الخطاب المذهبي ومنسجمة مع مشروع المقاومة. ثم أن التوتر المذهبي الحالي مرتبط بشكل أساسي بالأزمة السورية بما يعني أنه في النهاية سيعود للتقلص والضمور وحينها يمكن للحزب ترميم جزء كبير من الصدع المذهبي خاصة بالنظر الى أن إنجازات الحزب كحركة مقاومة لا زالت حديثة ومستقرة في الوجدان العربي بشكل واسع.
إنطلق حزب الله في مواقفه تجاه التحولات العربية من ثوابت واضحة منسجمة مع طبيعته ومشروعه, حق الشعوب في الحريات وضرورة الإصلاح السياسي وتحقيق العدالة الإجتماعية, الأولوية للحوار والوسائل السلمية, رفض التدخل الخارجي, ودرء المخاطر التي يمكن أن تهدد مشروع المقاومة في المنطقة. فرغم كل التطورات التي تعصف بالمنطقة, أكد حزب الله مراراً على اولوية الصراع مع إسرائيل ودعا الأنظمة العربية الجديدة الى دعم خيار الشعوب في المقاومة لا سيما الشعب الفلسطيني وإعطاء هذه القضية اولوية في الخطاب والممارسة, على المستويين الشعبي والرسمي.[22] كل ذلك, لأن التبعية للمشروع الأميركي هي أصل المفاسد في أنظمة المنطقة, ولذا تعامل الحزب مع أن حماية مشروع المقاومة في ظل التحولات هو أولوية تخدم مصالح الشعوب المنتفضة, فلا حريات ولا كرامة ولا سيادة, ولا رفاه وكفاية إقتصادية وأمن وإستقرار في ظل الهيمنة والإحتلال في الشرق الأوسط.
[1] إستمرت العملية لمدة 16 يوماً وأسفرت عن مقتل ما يقرب من 150 لبنانياً, منهم 100 سقطوا أثناء قصف “إسرائيل” لأحد مراكز قوات الأمم المتحدة حيث كان يختبأ مدنيون لبنانيون في بلدة قانا, بالإضافة الى تدمير الالاف المنازل. تمكن حزب الله من منع أي تقدم بري إسرائيلي ونجح في الإستمرار بقصف المتسعمرات الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة حتى الساعة الأخيرة قبل سريان بدء وقف طلاق النار في 27 نيسان. وهو ما أجبر “إسرائيل” على توقيع تفاهم لوقف إطلاق النار تحت رعاية دولية ومن اهم بنوده إمتناع إسرائيل عن مهاجمة الأماكن المدنية.
[2] عقدت القمة في 13 آذار تحت عنوان “القمة الدولية لصانعي السلام” في الشرق الأوسط, بمشاركة دولية وعربية واسعة, وإمتنع عن المشاركة على المستوى العربي فقط كل من سوريا ولبنان.
[3] بحسب إستطلاع رأي “لمركز بيروت للأبحاث والمعلومات” نشر في 25 آب 2006, تبين أن 84.6% من اللبنانيين إعتبروا ان الحرب كانت مدبرة من إسرائيل ولا علاقة لها بأسر الجنديين, و72% إعتبروا ان المقاومة خرجت منتصرة من الحرب. نتائج الإستطلاع متوفرة عبر الرابط التالي: http://www.alhiwar.info/topic.asp?catID=21&Nb=100
[4] خطاب السيد نصرالله في “الإحتفال التضامني مع الشعوب العربية” الذي نظمه حزب الله بتاريخ 13\3\2011
المرجع السابق[5]
[6] السيد موسى الصدر هو من أبرز علماء الشيعة المعاصرين في لبنان, وكان له الفضل الأساسي في إطلاق المقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي, وقد خطفه نظام القذافي أثناء زيارة رسمية له الى ليبيا, وقد حاول النظام الليبي إنكار الجريمة ولكن كل الدلائل تشير الى تورطه وذلك خدمة لحسابات القذافي الإقليمية حينها.
[7] بيان صادر عن العلاقات الإعلامية في حزب الله بعد سقوط نظام القذافي في 21 تشرين أول 2011
[8] راجع خطاب السيد نصر الله بعيد المقاومة والتحرير في 25\5\2011
[9] اندرو تابلر, الإنعطافة السورية, معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى, 15 آذار 2011
[10] مثلاً, في الأسبوع الأول للأزمة, إدعى المعارض مأمون الحمصي عبر مداخلة على قناة العربية أن آلاف العناصر من حزب الله دخلوا مسجد بني أمية الكبير في دمشق وضربوا المتظاهرين بالعصي والسكاكين. ورداً على ذلك اتصل مسؤول العلاقات العلامية للحزب بالقناة نافياً التهم جملة وتفصيلا, بعد ان كررتها القناة لأيام عدة.
[11] وقد أعلن السيد نصر الله أكثر من مرة أنه تحدث مع الأسد شخصياً منذ لداية الأزمة حول الإصلاح والحوار مع المعارضة وكان الأسد متجاوباً ولكن المعارضة رفضت الحوار, أنظر مثلا خطاب السيد نصر الله بمناسبة عيد المقاومة والتحرير في 25\5\2013
[12] خطاب السيد نصرالله بمناسبة عيد المقاومة والتحرير في 25-5-2013,
[13] لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة راجع مثلا: فاطمة سلامة, “المعارضة” السورية اليد الخفية “لإسرائيل” في سوريا, موقع العهد الإخباري, 12\6\2013, متوفر عبر الرابط التالي: http://www.alahednews.com.lb/essaydetails.php?eid=77803&cid=76
[14] هيئة التنسيق الوطنية جماعة سوريّة معارضة تتألف من عدّة أحزاب سياسيّة وشخصيّات معارضة مستقلّة من داخل سورية وخارجها، تعتبر هيئة التنسيق الوطنية من أهم أقطاب المعارضة السورية تأسست الهيئة في 6 تشرين الأول عام 2011. تضم الهيئة شخصيلت سورية بارزة أهمهم هيثم مناع وحسن عبد العظيم, وتجمع حزب الله علاقة وثيقة بكثير من شخصيات الهيئة منذ ما قبل الأزمة وهو ما يساهم في وجود خطوط تواصل بين الطرفين وتقبل متبادل.
[15] أشهر هذه المحاولات هو ضبط السلطات اللبنانية لسفينة (سفينة لطف الله 2) محملة بأطنان من الذخيرة في مرفأ طرابلس شمال لبنان كان يزمع تهريبها الى المعارضة المسلحة في الداخل السوري.
[16] تعرض السيد نصر الله لهذه النقطة في خطاب متلفز بتاريخ 28-2-2013, طالباً من الدولة اللبنانية الطلب من الدول الداعمة للمسلحين مثل السعودية وقطر ان تتدخل لمنع المسلحين من مهاجمة هذه القرى.
[17] أعلن السيد نصر الله عن هذه الخطوات في خطاب متلفز بتاريخ 30-4-2013
[18] خطاب السيد نصر الله بمناسبة اليوبيل الفضي لإذاعة النور بتاريخ 9 أيار 2013
[19] بتاريخ 19 تشرين الأول 2011 قام وفد من حزب الله برئاسة رئبس كتلته النيابية محمد رعد بزيارة موسكو لمدة ثلاثة أيام إلتقى خلالها كبار المسؤولين في مجلس الدوما والحكومة الروسية, بالإضافة للقاءات الدورية بين مسؤولي الحزب والسفير الروسي في بيروت.
[20] خطاب السيد نصر الله بمناسبة عيد المقاومة والتحرير في 25\5\2005 , متوفر عبر الرابط التالي: http://www.almanar.com.lb/english/adetails.php?eid=95030&cid=23&fromval=1
[21] لمزيد من التفصيل حول هذه النقطة, أنظر مثلا, حسام مطر, حزب الله في سوريا: صهر المنظومة الشمالية, جريدة الأخبار, العدد 2020 بتاريخ 4 حزيران 2013, متوفر عبر الرابط التالي: http://www.al-akhbar.com/node/184357
[22] راجع مثلاً, خطاب السيد نصر الله في إحتفال التضامن مع غزة بتاريخ 19 تشرين الأول 2012
Tags:
0 comments: