هل يمهّد صمود سورية لعسكرة التحالفات دولياً؟....د. حسن أحمد حسن
امتداد زمن الحرب المفروضة على سورية لأكثر من ثلاث سنوات قلب الطاولة فوق رؤوس أصحاب المشروع التفتيتي الذي يستهدف المنطقة، تمهيداً لفرض قواعد تعامل واشتباك جديدة على الساحة الدولية بما ينسجم واستراتيجية الصقور في الإدارات الأميركية المتعاقبة، جمهورية كانت أو ديمقراطية.
ومتتبع مجريات الحرب على سورية وتداعياتها يدرك أن الأسس التي انطلقت منها أطراف التآمر والعدوان كانت تستند إلى قناعة مطلقة بأن أعاصير الصقيع العربي ستجتاح سورية كسواها في غضون أسابيع، وفي أسوأ الأحوال خلال أشهر معدودة، لكن تبنّي هذه المقدمة الخاطئة أدى إلى نتائج خاطئة ساهمت في تقويض روافع الاندفاعة الأميركية الجديدة، فحسابات البيدر متناقضة مع حسابات الحقول، ما أرغم المايسترو الأميركي على التخلي عن بعض الأتباع وطرد آخرين من عربته التي غدت مندفعة بقوة العطالة لا أكثر، وهذا كفيل بإلزام بعض الحلفاء إعادة النظر والتفكير جدياً في مغادرة المقطورات قبل ارتطام الرأس القاطر بصخور الواقعية الجديدة التي أفرزها صمود سورية على الساحة الدولية.
فمجلس الأمن لم يعد منصة متقدمة لإمرار القرارات المطلوبة لفرض الإرادة الأميركية على المنظمة الدولية، وتكرار الاستخدام المزدوج الروسي ـ الصيني لحق النقض» الفيتو» أعاد الأذهان أجواء الحرب الباردة بعدما تجاوزت القواعد التي كانت ناظمة للعلاقات الدولية أيام الثنائية القطبية، وتدحرجت التداعيات بوتائر متسارعة تفوق قدرة أصحاب الرؤوس الحامية على المتابعة وتهيئة ما يلزم للتعامل مع كل جديد يفرزه اتجاه الحوادث نحو بيئة استراتيجية جديدة ينطبق عليها مفهوم الحرب الفاترة، فالعجز المركب والمتراكم الضاغط على الصقور والحمائم في واشنطن في آن معاً، ما دفعهم إلى توريط حلفائهم الأوروبيين بالتقرب أكثر من الحد المسموح به من الخاصرة الروسية وتهديد الأمن القومي الروسي على نحو مباشر، للضغط على موسكو ومحاولة إرغامها على الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط والتقوقع داخل الحدود الجغرافية الروسية، وتناسي كل ما له علاقة بالمجال الحيوي الذي لا غنى عنه لدولة فاعلة في صنع القرار الدولي.
وهنا كان الخطأ الأكبر والحماقة القاتلة التي ارتكبها مهندسو الاستراتيجية الأميركية بخاصة والأطلسية بعامة، فجميع منطلقات التحليل السياسي والعسكري والاستراتيجي تؤكد أنه لا يمكن لروسيا السكوت عن تمدد النفوذ الغربي ووصوله المباشر إلى خاصرتها المؤلمة، لسبب بسيط وجوهري يتلخص في أن انجراف أوكرانيا في التيار الأطلسي يعني فتح بوابات موسكو لكلّ ما يهدّد عوامل الأمن القومي الروسي. وبما أن الأمن القومي لا يحتمل الغفلة، كان الرد الروسي الصاعق الذي لم يعد في إمكان واشنطن وحلفائها قبوله أو التسليم به، كما لا يمكنهم تجاوز تداعياته، ولا وقف ما ترتب على تلك التداعيات من نتائج وآثار تتدحرج بتسارعات كانت خارج حسابات من خطط لبسط السيطرة على العالم انطلاقاً من البوابة الشرق أوسطية. وهنا لا بد من توضيح عدد من النقاط الأساسية المتعلقة بالسيناريوات المحتملة لتطور الحوادث، وربط النتائج بالمقدمات لتكوين صورة موضوعية ومفهومة لما حدث، وما قد يحدث في المستقبل القريب على الساحتين الإقليمية والدولية:
1 ـ اجتياح منطقة الشرق الأوسط تحت عنوان «الربيع العربي» جزء من مخطط أميركي لإرغام العالم على التسليم بالأحادية القطبية الأميركية على امتداد القرن الحادي والعشرين، ولو قدر للنازيين الجدد تفتيت سورية والانتظار بوقفة تعبوية مدروسة تمكّنهم من إعادة توزيع القوى والوسائط ونشرها وفق متطلبات ميادين المواجهة، والبناء الهادئ على التداعيات الممكنة لتغيرت معالم النظام العالمي وفق المشيئة الأميركية لعقود من الزمن.
2 ـ استمرار حلف الناتو بعد تفكك حلف وارسو يؤكد أن نزعة استخدام القوة مفصل جوهري في الاستراتيجية الأميركية المهيمنة على القرار الأوروبي، والعدو التقليدي للناتو هو روسيا الاتحادية في المقام الأول، لأنها المرشح الأوفر حظاً للعب دور القطب المكافئ المطلوب لضمان توازن القوى على الساحة الدولية.
3 ـ الصعود الصيني المتواتر على مستوى الاقتصاد العالمي يقلق مفاصل صنع القرار الأميركي، إذ لا يستطيعون الانفكاك من معادلة سندات الخزانة الأميركية التي غدت في يد الصيني، ويضاعف المأزق حرجاً إصرار القيادة الصينية على تعزيز قدراتها العسكرية والاستخفاف بالانتقادات الأميركية لهذه الظاهرة.
4 ـ عقم المحاولات الأطلسية التي تستهدف تقديم تطمينات غير مقنعة للجانب الروسي حول تمدد الناتو شرقاً، وتزامن ذلك مع تمسك واشنطن بنشر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية بذرائع شتى لا تقنع من يعرف ألف باء السياسة الدولية، فالمستهدف أولاً وأخيراً روسيا ومن بعدها الصين.
5 ـ افتضاح الإرهاب الممنهج العابر لحدود الدول والقارات، وفظاعة الجرائم التي ارتكبها الظلاميون الجدد في سورية، إذ ثبت بالدلائل القاطعة أن خطر الفكر التكفيري قابل للتمدد والانتشار وتهديد الجميع دونما استثناء، مع الأخذ في الحسبان تضاعف تلك الأخطار والتهديدات للأمن القومي الروسي في حال الانتشار نحو شرق القارة الآسيوية، وإمكان تطويق الأراضي الروسية من الجنوب والجنوب الشرقي بنزعة إسلاموية تكفيرية تقودها عصابات محترفة القتل والإجرام وتفخيخ السيارات والعبوات الناسفة وغيرها من الجرائم التي أضحى المسلحون الذين صُدّروا إلى سورية خبراء في التخطيط لارتكاب المجازر وتنفيذها بكفاءة عالية تم اكتسابها وتطويرها على حساب الدماء السورية التي يزداد نزفها منذ أكثر من ثلاث سنوات.
6 ـ إصرار واشنطن والغرب الأوروبي على جس النبض الروسي ـ الصيني بين وقت وآخر عبر التقدم بمشاريع قرارات لإمرارها في مجلس الأمن، كما حدث في 22/5/2014 ، وكان الرد حاسماً وقاطعاً عبر استخدام الفيتو المزدوج للمرة الرابعة.
والسؤال المشروع الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا التقدم بمشروع القرار وطرحه للتصويت طالما أن روسيا أعلنت بوضوح أنها ستستخدم الفيتو؟ وكيف يمكن تفسير خطاب المندوبة الأميركية الفظ والبعيد عن الأعراف الدبلوماسية حين أكدت على أنه يجب محاسبة من رفض إحالة ملف سورية على المحكمة الجنائية الدولية، وهذا تهديد مباشر لموسكو وبكين في آن واحد، وهو دليل على مدى الارتباك والتخبط الأميركي والأوروبي من جراء العجز عن الاستمرار في فرض الأحادية القطبية والاستفراد بالقرار الدولي، ولا شك في أن تراكم الإخفاقات قد يدفع المأزومين إلى سياسات أكثر حماقة وتهوراً على أكثر من جبهة من جبهات الحرب الفاترة المفتوحة، وبخاصة بعد تمكن السوريين من ممارسة حقهم الدستوري في التوجه إلى صناديق الاقتراع وإتمام الانتخابات الرئاسية، رغم أنوف جميع أطراف التآمر والعدوان التي لم يعد في إمكانها إلا التهديد والوعيد، فالسوريون حزموا أمرهم وقرروا تحصين الانتصارات الميدانية التي يحققها الجيش العربي السوري بالتوجه إلى الانتخابات الرئاسية وإنجاز هذا الاستحقاق الوطني والدستوري، وجميع معطيات الواقع تؤكد أن الشعب العربي السوري سينتخب من يجسد إرادته الرافضة لجميع أشكال التبعية والحريصة تماماً على سيادة الدولة واستقلالية قرارها الوطني، أي أن من رفع شعار «إسقاط النظام» سيتلقى الصفعات الأكثر إيلاماً من صناديق الاقتراع التي تثبت التفاف الشعب والجيش حول قيادة السيد الرئيس بشار الأسد وهو يقود سفينة الوطن إلى شواطئ الأمن والانتصار.
7 ـ إبداع السياسة الروسية في الاستثمار على تهور المأزومين، وهذا ما ظهر بوضوح في عودة القرم إلى موطنها الأصلي روسيا الاتحادية. ولعلّ الحماقة الأطلسية في أوكرانيا قدمت إلى القيصر الروسي فرصة من ألماس لاستعادة الألق الروسي وتوجيه صفعة استراتيجية مركبة لأصحاب المشروع التفتيتي الذين أرادوا معاقبة روسيا على مواقفها من سورية فقدموا إليها برعونتهم ورقة قوة إضافية كفيلة بتغيير قواعد اللعب على الساحة الدولية.
ممّا تقدم يمكن القول : إن الصمود الأسطوري للدولة السورية شعباً وجيشاً وقيادة وعجز أطراف التآمر والعدوان عن تفتيت سورية بأعاصير « الربيع العربي» ولَّد بيئة استراتيجة جديدة عنوانها الأبرز دق المسمار الأخير في نعش الأحادية القطبية وتهيئة ما يلزم لولادة نظام عالمي جديد متعدد القطب، وهذا لا يستقيم مع استمرار الناتو كحلف عسكري وحيد يعبر عن إرادة أحد تلك الأقطاب.
أي أننا أمام احتمالين، فإما يتم تفكيك الناتو، وإما يكون التوجه إلى ولادة «وارسو» جديد يتجاوز معالم الأحلاف العسكرية التقليدية أيام الحرب الباردة ليأخذ شكلاً جديداً قد يتبلور عبر علاقات استراتيجية تتجاوز مرحلة التنسيق السياسي والدبلوماسي والاقتصادي لتصل إلى مرحلة التكامل والتشبيك بين الأطراف الدولية الصاعدة مثل دول البريكس أو غيرها من التحالفات الدولية القابلة للتشكل والانطلاق بتسارعات تقلب الطاولة على رؤوس من يدور في الفلك الأميركي، وقد يكون الاتفاق الروسي ـ الصيني الأخير على تصدير الغاز الروسي إلى الصين مجرّد بداية ترخي بظلالها على العلاقات الدولية، وترغم الجميع على إعادة الحسابات أكثر من مرة والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة.
البناء
0 comments: