حسام مطر - السيلفي الأميركية
الطرح الامبراطوري الأميركي يحتاج إلى صورة، صورة
تجعل من الخضوع للهيمنة الأميركية أمراً ملحاً ومستحباً بل ومصدر افتخار كي تتمكن
النخب الوكيلة حول العالم من الانصياع للمصالح الأميركية بكلفة شعبية متدنية. قوة
الصورة تقلّص الحاجة الى العنف والاكراه، ما يعني رفع كفاءة السياسات
الامبراطورية. «القوة الخيرة»، «الهيمنة الخيرة»، «الهيمنة الناعمة» «المنارة على
أعلى التل»، «الحلم»، «قيادة العالم الحر»، «مثال الحرية والتعدد والفكر الحر»،
كلها جزء من السردية الأميركية لشرعنة فكرة الامبراطورية الأميركية باعتبارها
مستقبل العالم المفعم بالاستقرار والرفاه والتقدم والعقلانية.
ما بين حقبتي بوش الابن وأوباما، قد يكون موضوع «صورة» أميركا احتل الحيز الأبرز في المقارنة بين الحقبتين وفي تقويمهما سلباً أو ايجاباً. وفي هذا السياق عاد مفهوم «القوة الناعمة» للظهور بقوة في الأكاديميا والاعلام بعد العام 2004. كان الشرق الأوسط والعالم الاسلامي المسرح الأساسي للاهتمام الأميركي على مستوى الصورة بعد السنوات الكارثية لجورج بوش الابن، حيث وصلت معاداة أميركا لمستويات قياسية (لمركز «بيو» الأميركي استطلاعات تفصيلية حول الموضوع). وقد لحظت الدراسات علاقة مباشرة بين ارتفاع المعاداة لأميركا وارتفاع التطرف والتعبئة العنفية ضد الولايات المتحدة ومصالحها.
ما بين حقبتي بوش الابن وأوباما، قد يكون موضوع «صورة» أميركا احتل الحيز الأبرز في المقارنة بين الحقبتين وفي تقويمهما سلباً أو ايجاباً. وفي هذا السياق عاد مفهوم «القوة الناعمة» للظهور بقوة في الأكاديميا والاعلام بعد العام 2004. كان الشرق الأوسط والعالم الاسلامي المسرح الأساسي للاهتمام الأميركي على مستوى الصورة بعد السنوات الكارثية لجورج بوش الابن، حيث وصلت معاداة أميركا لمستويات قياسية (لمركز «بيو» الأميركي استطلاعات تفصيلية حول الموضوع). وقد لحظت الدراسات علاقة مباشرة بين ارتفاع المعاداة لأميركا وارتفاع التطرف والتعبئة العنفية ضد الولايات المتحدة ومصالحها.
في تحليل أسباب المعاداة لأميركا، يميل
الأميركيون إلى المكابرة، فغالباً ما يجري ربط المعاداة إما بحسد الآخرين تجاه
القوة الأميركية أو من «شكل» السياسات الأميركية، أي في كلا الحالتين ليس الخلل في
السياسات ذاتها. ولذا أطلق الأميركيون عملية إحياء شاملة للديبلوماسية العامة
الأميركية منذ العام 2003. نجح أوباما نسبياً في «إعادة النضارة لبشرة»
الامبراطورية الأميركية، إلا أن الزمن غالب.
تروّج الولايات المتحدة لصورتها كما تسوّق شركات الاعلانات للمنتجات التجارية. نحن لا نرى المنتج فعلياً بل الصورة التي يريدها مروّج الاعلان، وبفعل المستوى المهول والمعقد من تقنيات الإعلان والتسويق اليوم، لا تنفك المسافة بين المنتج وصورته تتباعد بشكل خيالي.
تبدأ صورة أميركا من الداخل، تقدمه لنا على كونه مثالاً ينبغي أن يُصنع العالم على شاكلته. فنرى في الصورة الأميركية حريات وديموقراطية وفرص متساوية وتعددية ورفاه وحقوق للمهمشين وتقدم علمي وتناغم وسلام. أما السلبيات في النموذج فليست إلا عوارض جانبية وليس بنيوية، ويمكن مداواتها ببعض الإجراءات التعويضية. سعى أوباما جاهداً للتأكيد على هذه الخصائص مستشهداً بوصوله، كرجل أسود البشرة، إلى سدة الرئاسة. إلا أن الأزمة الاقتصادية المالية 2008، وظهور حجم اللامساواة الاجتماعية، والانقسام الحزبي العميق، وفضائح التنصت، كلها شكلت تحديات جدية لصورة النموذج الأميركي في حقبة أوباما.
في شكل السياسات، كانت نجاحات أوباما أكثر بروزاً، وذلك في سياق اخراج واشنطن من سياق «الحرب مع الإسلام» وخلق إطار جديد للحرب أسماه الأميركيون «الحرب داخل الحضارة الإسلامية»، بمعنى أن الأميركي مجرد حليف لقوى «الإسلام المعتدل» التي تخوض صراعاً مع «الإسلام الراديكالي». فالحرب مصدرها إسلامي وليس أميركياً الذي أتى كمجرد متطوع الى جانب قوى الخير، كالسعودية (تخيل). تركزت الديبلوماسية العامة في حقبة أوباما على إظهار أميركا كحكم نزيه ومحايد في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، كمتفهم للعمل مع بعض حركات الإسلام السياسي، وكمدرك للفرق بين الإسلام والإرهاب، وكداعم للمطالب الشعبية في المنطقة، وكحاضن للشباب العرب من خلال التفعيل الكثيف لبرامج التبادل الطلابي والتعليمي وإعداد القيادات الشابة بالاضافة للاحتفاء ببعضهم، إلى حد منح شخصية كتوكل كرمان جائزة «نوبل».
مع وصول دونالد ترامب، الذي من خلال أفكاره وخطبه والتسوية التي من المرجح عقدها مع المحافظين المتشددين في السياسة الخارجية مقابل تنازلات يقدمونها له في السياسة الداخلية، فإن أميركا الخطاب والصورة ترتد إلى حقبة بوش الابن، وإن كان سيبقى الحذر «الأوبامي» من التورط في المنطقة سائداً. ومن الداخل الأميركي، كان وصول ترامب بمثابة «غسل وجه» الإمبراطورية، فبانت على أصل هيئتها، من التطرف العنصري والتفاوت الاجتماعي والطبقي والتنافر القيمي والكراهية ضد الآخر والإحساس بالتفوق المقيت وفساد النخبة الحاكمة والجهل المستشري إلى التوتر والخيبة من فكرة العولمة وقيادة العالم. فالمد «الشعبوي» الحالي، كما يوصف، في أميركا والغرب عموماً نمى في هذه الزوايا المظلمة.
لا يعني ما تقدم خلو التجربة الأميركية من جوانب مشرقة ينبغي الانتفاع منها. لكن الانتخابات الأميركية الأخيرة سمحت للعالم بامكانية مشاهدة كامل الصورة الأميركية، فشاهد العالم «الوهم المتضخم» للنموذج الأميركي وكذلك الكلفة الداخلية الباهظة، وليس الخارجية فقط، للحلم الأميركي. كما بدا حجم الانقسام بين الأميركيين أنفسهم حول هذا الحلم لا سيما في الأرياف والضواحي التي تبقى أحوالها أفضل بأضعاف مضاعفة حتى من مدن العالم الثالث، فكيف تريد بعد اليوم إقناع غالبية شعوب العالم «بالحلم الاميركي» فيما يهجره أهله؟
بلغة عالم التواصل الاجتماعي، وصول ترامب كان بمثابة استيقاظ الامبراطورية الأميركية منهكة بعد ليل صاخب والتقاطها صورة «سيلفي»، وهي صورة يبدو أنها ستحرمها من الكثير من «اللايكات». من سخرية الأقدار أن يحدث ذلك فيما أميركا تحاول اقناع العالم أن «داعش» هي «سيلفي» الاسلام. العالم اليوم يعاني فراغ في الفكرة والصورة، فلنترقب البدائل.
تروّج الولايات المتحدة لصورتها كما تسوّق شركات الاعلانات للمنتجات التجارية. نحن لا نرى المنتج فعلياً بل الصورة التي يريدها مروّج الاعلان، وبفعل المستوى المهول والمعقد من تقنيات الإعلان والتسويق اليوم، لا تنفك المسافة بين المنتج وصورته تتباعد بشكل خيالي.
تبدأ صورة أميركا من الداخل، تقدمه لنا على كونه مثالاً ينبغي أن يُصنع العالم على شاكلته. فنرى في الصورة الأميركية حريات وديموقراطية وفرص متساوية وتعددية ورفاه وحقوق للمهمشين وتقدم علمي وتناغم وسلام. أما السلبيات في النموذج فليست إلا عوارض جانبية وليس بنيوية، ويمكن مداواتها ببعض الإجراءات التعويضية. سعى أوباما جاهداً للتأكيد على هذه الخصائص مستشهداً بوصوله، كرجل أسود البشرة، إلى سدة الرئاسة. إلا أن الأزمة الاقتصادية المالية 2008، وظهور حجم اللامساواة الاجتماعية، والانقسام الحزبي العميق، وفضائح التنصت، كلها شكلت تحديات جدية لصورة النموذج الأميركي في حقبة أوباما.
في شكل السياسات، كانت نجاحات أوباما أكثر بروزاً، وذلك في سياق اخراج واشنطن من سياق «الحرب مع الإسلام» وخلق إطار جديد للحرب أسماه الأميركيون «الحرب داخل الحضارة الإسلامية»، بمعنى أن الأميركي مجرد حليف لقوى «الإسلام المعتدل» التي تخوض صراعاً مع «الإسلام الراديكالي». فالحرب مصدرها إسلامي وليس أميركياً الذي أتى كمجرد متطوع الى جانب قوى الخير، كالسعودية (تخيل). تركزت الديبلوماسية العامة في حقبة أوباما على إظهار أميركا كحكم نزيه ومحايد في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، كمتفهم للعمل مع بعض حركات الإسلام السياسي، وكمدرك للفرق بين الإسلام والإرهاب، وكداعم للمطالب الشعبية في المنطقة، وكحاضن للشباب العرب من خلال التفعيل الكثيف لبرامج التبادل الطلابي والتعليمي وإعداد القيادات الشابة بالاضافة للاحتفاء ببعضهم، إلى حد منح شخصية كتوكل كرمان جائزة «نوبل».
مع وصول دونالد ترامب، الذي من خلال أفكاره وخطبه والتسوية التي من المرجح عقدها مع المحافظين المتشددين في السياسة الخارجية مقابل تنازلات يقدمونها له في السياسة الداخلية، فإن أميركا الخطاب والصورة ترتد إلى حقبة بوش الابن، وإن كان سيبقى الحذر «الأوبامي» من التورط في المنطقة سائداً. ومن الداخل الأميركي، كان وصول ترامب بمثابة «غسل وجه» الإمبراطورية، فبانت على أصل هيئتها، من التطرف العنصري والتفاوت الاجتماعي والطبقي والتنافر القيمي والكراهية ضد الآخر والإحساس بالتفوق المقيت وفساد النخبة الحاكمة والجهل المستشري إلى التوتر والخيبة من فكرة العولمة وقيادة العالم. فالمد «الشعبوي» الحالي، كما يوصف، في أميركا والغرب عموماً نمى في هذه الزوايا المظلمة.
لا يعني ما تقدم خلو التجربة الأميركية من جوانب مشرقة ينبغي الانتفاع منها. لكن الانتخابات الأميركية الأخيرة سمحت للعالم بامكانية مشاهدة كامل الصورة الأميركية، فشاهد العالم «الوهم المتضخم» للنموذج الأميركي وكذلك الكلفة الداخلية الباهظة، وليس الخارجية فقط، للحلم الأميركي. كما بدا حجم الانقسام بين الأميركيين أنفسهم حول هذا الحلم لا سيما في الأرياف والضواحي التي تبقى أحوالها أفضل بأضعاف مضاعفة حتى من مدن العالم الثالث، فكيف تريد بعد اليوم إقناع غالبية شعوب العالم «بالحلم الاميركي» فيما يهجره أهله؟
بلغة عالم التواصل الاجتماعي، وصول ترامب كان بمثابة استيقاظ الامبراطورية الأميركية منهكة بعد ليل صاخب والتقاطها صورة «سيلفي»، وهي صورة يبدو أنها ستحرمها من الكثير من «اللايكات». من سخرية الأقدار أن يحدث ذلك فيما أميركا تحاول اقناع العالم أن «داعش» هي «سيلفي» الاسلام. العالم اليوم يعاني فراغ في الفكرة والصورة، فلنترقب البدائل.
جريدة السفير
0 comments: