Sunday, September 10, 2017

الإعلام وسياسة المغالطة.. مغالطة الحصر العقلي المغشوش

الإعلام وسياسة المغالطة(2)
مغالطة الحصر العقلي المغشوش

لا أحتاج إلى التذكير بأنّ العلاقة بين المنطق والإعلام هي من المتانة بمكان بحيث يصبح من الخطأ اعتبار أنّ الصناعة المنطقية أجنبية عن هذا الاختصاص. لنتذكّر أيضا أنّ المنطق معني بموضوع الإعلام بوصف هذا الأخير في أصل نشأته الوظيفية هو رسالة تواصلية. ووحده المنطق قادر على التمييز بين مستويات وطبقات التواصل باعتبار أنّ القسم الأكبر من مسببات أزمة التواصل هو المغالطة. وفي الإعلام يتم تكريس الأزمات بتقنيات محترفة من التغليط، بل حتى مفهوم المهنية خضع لهذا النوع من المغالطة بحيث يقصد منها توريّا(بالتاء= المقصود الحديث بلفظ يحمل معنى آخر تقصده ولا يقصده المتلقي) تقنية خداع المتلقّي من دون إحساسه بأنك تغالطه. القيمة الجديدة لهذا النوع من الأخلاق المهنية(professional ethics ) هو أن لا يشعر المتلقّي بأنّك تخدعه،أي أن المهنية لا تمنع من الخداع حين يكون بتقنيات ومهارات عالية، بل يصبح الخداع لا أخلاقيا حين لا يكون تقنيّا.
وهناك مغالطة أخرى تستند إليها الوسائط الوظيفية في احتواء الوعي هو ما يمكن التعبير عنه بمغالطة الحصر العقلي المغشوش. وقيد المغشوشية هنا ناظر في الانحراف الذي يصيب هذا المفهوم باعتباره مفهوما منطقيّا. ومعلوم أنّ المغالطة تعتمد صورة الصدق ومنطقه بينما هي في حقيقتها تخفي بناءها الهشّ وخداعها على مستوى المقدّمات المنطقية. فالمنطق في نظري ليس دائما عاصما للفكر من الخطأ بل هو أيضا مجال للاستغلال والخداع ولا يكاد يفطن لهذا النوع من الاستغلال إلاّ من تفنّن في هذه الصناعة وأحزر علما بكل أشكال المغالطة باعتبارها هي الشكل الأخطر في استغلال المنطق. ماذا يا ترى أقصد بمغالطة الحصر العقلي المغشوش؟
الحصر في المنطق إمّا استقرائي يقوم على تتبّع الحالات والعينات الكثيرة التي يحصل معها اليقين القائم على الإطمئنان أو حصرا عقليّا ثنائيا بين النّفي والإثبات، ناهيك عن صور أخرى للحصر يحدّدها المخاطِب في عدد محدّد حسب ما يقتضيه تعداد الأقسام والعيّنات أو النّقاط المناسبة كما يراها وهو حصر جعلي يبرره المخاطِب ويحصل في العادة حوله تسامح لأنّه في أسوأ الحالات لا يستوفي شروط كمال النظر  كما هو شأن تحديد محاور النقاش في قضية ما. وكما لا يخفى فإنّ المغالطة تنطلق في العادة من مقدّمات خاطئة وصولا إلى استنتاجات خاطئة، لكن في الغالب فإنّ خطأ المقدّمات لا يظهر لغير الخبير بتتبّع وتحقيق المقدّمات الصحيحة للاستدلال الصحيح، بل إذا كانت المغالطة تحضر في التخاطب غالبا بصورة عفوية قد لا يلقي المخاطِب لها بالا، ويكون المخاطِب كالمخاطَب كلاهما ضحيّة فساد المقدّمات وبالتالي فساد القياس الذي تقوم عليه المغالطة ففي مجال السياسة الإعلامية الموجّهة هناك وعي بخطوات الاستدلال باعتبار أنّ الإعلام يباشر مهمّته الحجاجية وفق مقدّمات فاسدة قد يلعب فيها الخداع البصري دورا أساسيا، حيث تكون المقدمة التي تستند إلى  تقنية الخداع البصري هي نفسها مقدّمة فاسدة تنتهي باستنتاج غير صحيح. فالخداع في الحجاج الميديولوجي يستعمل مقدّمات تركيبية من القول والسمع والصورة، ويكفي أن تكون واحدة من هذه المستويات مشوبة بالخداع لتفسد البوصة برمّتها لأنّها تنقل الفكرة في تواطؤ الصوت والصورة في آن معا. صورة من هذه المغالطة تكمن في أن نحرّف صورة الحصر نفسها من حصر استقرائي إلى حصر عقلي، وذلك بأنّ نكون أمام حالات متعددة لكن تعمل السياسة الإعلامية من خلال لعبة الاختزال وهي في حدّ ذاتها مغالطة تؤازر مغالطة الحصر المغشوش، بل إنّ مغالطة الاختزال التي سنتحدّث عنها هي جوهر مغالطة الحصر المغشوش، تنتهي بتحويل صورة الحصرين نحو بعضهما بحسب سياقات ولعبة الإقناع، أي أنّه أحيانا يقتضي الأمر أن نختزل الحالات في حالتي نفي وإثبات وتارة نلجأ إلى مغالطة اختلاق الحالات المغشوشة وهو مقابل الاختزال لنجعل من الحصر العقلي حصرا استقرائيا مغشوشا. وفي المثال الأوّل - مثال مغالطة الاختزال_ يفرض الوسيط الإعلامي على المحلل السياسي أن يجيب عن قضية تتطلّب تعداد حالات الحصر الاستقرائي بنعم أم لا، والمبرّر دائما هو أمران صورتهما:
- نحن لا نريد الخروج عن الموضوع، أجب: نعم أم لا
- نحن مضغوطين بالوقت، أجب: نعم أم لا
تدخل سلطة الزّمن في إيقاف تعداد الحالات ويجد المحلل نفسه أمام حصار حقيقي لا يمكن الخروج منه إلاّ بالاستسلام لمغالطة الاختزال وتحويل الحصر الاستقرائي إلى حصر عقلي.
وفي المثال الثّاني - مثال مغالطة توليد الحالات المغشوشة - يمارس الوسيط الإعلامي على المحلّل السياسي مغالطة رجل القشّ، بحيث يمارس شكلا من الهجوم على طريقته الحصرية باستعمال تهما ضدّ المحلل السياسي مثل: اتهامه بالاختزال والنزعة المتطرّفة ومحدودية الأفق والإرهاب الفكري والمبرر هو أمران:
- أنت تفرض رأيا محدودا على قضية لها أكثر من وجه ورأي، نحن ضدّ دكتاتورية الخطاب
- دعنا نستمع إلى آراء أخرى، نحن نعيش عصر الديمقراطية وعلى النّقاش أن يستمر
في العادة يلجأ الوسيط الإعلامي إلى اعتماد آراء فاقدة للمتانة المنطقية وربما استعان بآراء من الجمهور اعتمادا على الميكرو-طروطوار، أي اختلاط العلم بالجهل لتمييع الحقيقة وكسر سطوة المتانة المنطقية للاستدلال.
في الحصر العقلي يجد الوسيط الإعلامي مراده حينما يحبك روبورتاجا أو يخطط إلى رسالة إعلامية ما. مغالطة الاختزال هنا تقوم على حصر القضية في عيّنتين يوحي بهما برنامج الاتجاه المعاكس. هذا البرنامج يعكس استراتيجيا ميديولوجية تفرض على المتلقّي صورة لحجاج ثنائي يوحي تحت ضغط الصراع الصوتي والحركات الممسرحة إلى الإيحاء بأنّنا أمام رأيين وبالتالي بين حالة نفي وإثبات، بينما يغيب الرأي الثالث أو الحالات الأخرى. في الغالب ينتهي الحصر العقلي بنتيجة هي بخلاف الاستقرائي ، لكن حينما يتحوّل الحصر الاستقرائي إلى عقلي بإسناد من مغالطة الاختزال يصبح مثل حكم الحصر الاستقرائي خاوي الوفاض.
لمغالطة الحصر العقلي المغشوش صور كثيرة ومستويات متعدّدة، وعلى سبيل المثال يتمّ محاصرة المتلقّي في نموذجين أحدهما سيّئ والآخر أسوأ. وبالفعل تكون الوضعية هي وضعية نفي أم إثبات، أي ديكتاتورية الاختيار بينهما على نحو حصري ووجودي، مثلا يفرض الإعلام على المتلقي أن يختار بين: الإخوان أو القاعدة..بين داعش أو النّصرة..بين القرضاوي أو العرعور..بين الزرقاوي أو عزمي بشارة..بينما يظهر في الإعلام بوصفه حصرا عقليّا لكنه في الحقيقة ليس كذلك، لأنّ الحقيقة في الواقع لها طريق ثالث وحلول سياسية متنوعة واختيارات شتّى بل نحن هنا في الأصل أمام خداع يستند إلى الإلهاء البصري إلى حدّ القبول بفكرة أنّه ليس في الإمكان أبدع مما كان، بينما الحقيقة أنّ كليهما (السيّئ والأسوأ) هما من إنتاج الإعلام نفسه، ونجوميتهما مصطنعة، وكلاهما ينتميان لذات الأنظومة الجيوستراتيجية..وهي من التقنيات التي تستعمل حتى في الماركوتين بناء على سياسات احتكارية تفرض على المستهلك أن يختار بين أمرين أحلاهما مرّ..تنقلب صورة المغالطة ويصبح الإعلام المغالط بصدد تبرير فكرة أنّ الأمر لا يمكن أن يحصر بين نفي وإثبات أو بين أمرين وجوديين،وذلك نضرب له مثالا فيما جرى خلال سنوات من الحرب الميديولوجية الطاحنة بين محور الممانعة ومحور التّبعية. المحور الأخير اهتدى إلى تصوير مغشوش لموقف الممانعة باعتبارها تفرض خيارا بين الإستبداد والقضية الفلسطينية..ثم جاء الجواب على أنّه ليس من الضروري أن نفرّط في الديمقراطية من أجل أن نحرر فلسطين، لماذا لا نكرّس الديمقراطية أوّلا ثم نحرّر فلسطين..وطبعا هناك الكثير من صور التبرير التي تتيحها المديولوجيا، لكن هذه المغالطة تخفي الكثير من العوامل التي تحيلنا في نهاية المطاف إلى مفارقة كذّاب كريت: أي أنّ تصديق أمر ما يستند إلى تكذيبه والعكس، إذا صدق كذب وإذا كذب صدق. هنا تُحجب الوجوه الأخرى للحقيقة، حيث أنّ قضية الديمقراطية لها أسس في الاقتصاد السياسي وهي مرهونة لمصير السيادة والتحكم في مجال السياسات الإقليمية والدولية: وضع الدولة الوطنية داخل المجتمع الدولي، قضية الاختلال، دور الإمبريالية في مقايضة الديمقراطية بالاقتصاد، وقضايا كثيرة. وفي نهاية المطاف وجدنا أنّ المافحين عن هذه المغالطة خضعوا لمساومات واشتراطات فقدوا معها كلّ بكارتهم السياسية والمبدئية والاستراتيجية..إنّها المغالطة التي جعلت الحراكات العربية تنتهي إلى خراب أعاد المنطقة إلى عهد ما قبل الدّولة في حين ازدهر التّطرف وانهدم المعمار القيمي وهيمنة الهشاشة، وكلّ هذا لأنهم قبلوا يوما يمغالطة الاختزال ونقيضها، وكانوا ضحايا لسياسات إعلامية تجيد فنّ الاستحمار..
ادريس هاني :10/9/2017


Previous Post
Next Post

About Author

0 comments: