«مدافع آية الله» ماتزال صامدة.. لماذا لم ينهر النظام في إيران منذ 40 عامًا
في شتاء ديسمبر (كانون الأول) من العام 1979، وقبل ثلاثة أشهرٍ كاملة من سقوط نظام الشّاه في إيران، كان آية الله الخُميني في فرنسا قادمًا من النجف العراقية التي مكث فيها 13 عامًا يؤسس لنظرية «ولاية الفقيه»، وكان التساؤل حول مصير الاحتجاجات الشعبية التي ضربت نظام الشاه هو أحد أكثر الأسئلة صعوبة التي لا يمتلك الخُميني نفسه إجابة عنها؛ نظرًا لأنّ أكبر التحديات التي واجهت الثوار «العُزّل» تمثلت في جيش الشاه -شُرطي الخليج- القوي المدعوم أمريكيًّا والأقوى بين جيوش المنطقة، إضافة إلى قبضة السافاك المتوحشة -الشرطة السريّة- الذي تأسس بمساعدة الموساد الإسرائيلي، كما أن الخُميني قد جاوز الثمانين ولا تربطه أية صلةٍ بالشباب، حتى أنّ رجال الدين والسياسة الذين اجتمعوا في الميدان كانت التناقضات التي تفرقهم أقوى من الهتافات المشتركة التي تجمعهم، لذلك لم يكن أحدٌ يدري وقتها إلى أين تسير العاصفة.
الآن، نظام الجمهورية الإسلامية بات مُهددًا بالرياح العاتية التي تكاد تُسقطه في كل مرة؛ العقوبات الأمريكية الممتدة منذ 40 عامًا، والاحتجاجات التي تزداد حدتها كلما تعثّر الاقتصاد وزادت معدلات البطالة، إضافة إلى العزلة الخارجية والجغرافيا السياسية التي تجمعه بالدول التي تناصبه العداء، والأخطر أنّ الجيل الثالث من الشباب الذي لم يشهد الثورة الإسلامية في أوج مجدها، بات هو أكثر المُنادين بتحسين ظروف المعيشة أو إسقاطها، لكن النظام حتى الآن صامد في وجه الجميع برغم ضعفه الظاهري. هذا التقرير يحاول أن يقدم أطروحة حول أسباب تماسك نظام «ولاية الفقيه» رغم التكتّل الدولي والداخلي لإسقاطه.
ولاية الفقيه.. أن يُصبح النظام «الثيوقراطي» أحد أوجه الإسلام
لا يجوز أن تخلو الأرض من إمامٍ حاكمٍ معصومٍ من الأخطاء، يكون حُجّة الله وظِلّه.*أسس ولاية الفقيه في المذهب الشيعي الإثني عشري
يؤمن شيعة المذهب الإمامي الإثني عشري بضرورة أن يكون لرجال الدين ولاية على المُسلمين إلى آخر الزمان، ويرجع اسم المذهب الاثني عشري إلى اثني عشر إمامًا من نسل الإمام علي بن أبي طالب، المنسوب له -في المذهب الشيعي- أحاديث للنبي محمد بوجوب اتّباعه، لذا ظلّت طائفة من المُسلمين ممن تسمّوا بالمذهب الشيعي يتبعون أئمة آل البيت حتى الإمام الحادي عشر «الحسن العسكري» الذي توفي في عهد الدولة العباسية عام 260 هـ، دون إعلانه عمّن سيخلفه -الإمام الاثنا عشر الغائب-، وبوفاته انقسم البيت الشيعي إلى 14 فرقة، واحدة منها فقط هي التي تؤمن بوجوب أن يكون في كل زمان «إمامٌ معصوم إلى أن تقوم الساعة»، لذا ظلّ البحث عن الإمام المهدي المنتظر الغائب فنشأت «عقيدة الانتظار» التي أنقذت المذهب من الضياع، إلى جانب عقيدتي «التقية والإمامة».
دخل المذهب الشيعي الاثنا عشري -الطائفة الشيعية الأكبر- منذ تلك اللحظة في أزمة فقهية كبرى؛ ففي ظلّ غياب الإمام تعطلت كلّ وظائف الدولة الدينية، لذا أفتى الفقهاء بعد طول الغيبة الكبرى للمهدي – الذي لم يظهر حتى الآن- بجواز الإنابة عن الإمام المنتظر، وهي فكرة أنقذت المذهب من الضياع على الأقل من الناحية الدينية رغم الجمود السياسي. ومع ذلك فقد ظلت فكرة غياب الإمام تتناقض مع فلسفة الإمامة التي تقول بعدم جواز خلو الأرض من قائم لله بالحُجة، لذا تطوّرت نظرية «ولاية الفقيه» التي وضعت الحل الجزئي للاستنباط والاجتهاد في فروع الدين بعيدًا عن السياسة.
في عهد الدولة الصفوية كان الشيعة على موعدٍ مع ثورة فقهية جديدة، فقد كان شاه طهماسب الأول (1517-1567) مُقيدًا في حُكمه من مراكز القوى ومنها جنود «القزلباشية»، وكان الحل السحري للشاه أن يُراسل كبير الشيعة الشيخ «عليّ الكركي» لكي يعتلي رأس الهرم الديني بولايته بوصفه نائبًا عن الإمام المهديّ الغائب، وبذلك تطيعه كل أركان الدولة، وكانت صفقة التزاوج بين السُلطة والدين في صالح الشاه، لكنها ذات الفكرة التي ستهدم النظام الملكي فيما بعد.
في كتابه «البيع»؛ كتب الخُميني: «للفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة، مما يرجع إلى الحكومة والسياسة، ولا يُعقل الفرق»، ما يعني أنّ الخُميني أطاح بكل القواعد الفقهية القديمة، وتجرأ لأول مرة بإعطائه للوليّ الفقيه الولاية المطلقة الكاملة على المسلمين، الولاية التي كانت للنبي محمد نفسه باعتباره معصومًا من الخطأ، وحين أصبح الخميني بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 أول مرشد للثورة أصبح يجسد فعليًا النظرية التي أصبحت نظامًا «ثيوقراطيًّا» في الإسلام.
لكن كيف حافظ نظام ولاية الفقيه على بقائه رغم الحملات الداخلية والخارجيّة الشديدة ضدّه، في الجزء الثاني من التقرير نشرح لك خمسة أسباب تمنع انهيار نظرية «ولاية الفقيه» رغم اعتراض طائفة كبيرة من الإثني عشرية للخميني.
1-النزعة الفارسية.. العداء التاريخي مع حضارة العرب
كُنّا ملوك الدنيا وساداتها حين كان العرب حُفاة عراة يرعون الإبل في الصحراء، ثم غلبونا بالإسلام، أما آن الأوان أن نغلبَ بالإسلام كما غلبوا؟*مقولة فارسية
في عهد خليفة المسلمين عُمر بن الخطاب، كانت الإمبراطورية الفارسية الساسانية –إيران وما حولها- مُتاخمة لحدود دولة الخلافة، وكان عُمر يقول: «وددتُ أن بيننا وبين فارس جبلًا من نارٍ لا يصلون إلينا منه، ولا نصل إليهم»، لكنّ الطموح الإسلامي بالاتساع شرقًا وغربًا سُرعان ما أجبر ابن الخطاب على إرسال جيوشه والاصطدام بأقوى إمبراطوريات الزمان التي نافست إمبراطورية الروم، والتي لم يعرف التاريخ مجدًا سواهما؛ لكنّ الإسلام أسقط كلتيهما لتبدأ حضارة جديدة تصبغ كل شيء بطابعها.
بسقوط دولة الفرس ودخول الإسلام إلى أرضها، أصبح مواطنوها جزءًا من الدولة الإسلامية، وبالرغم من أن حضارتهم لم تصمد أمام الحضارة الإسلامية إلا أنهم قاوموا المدّ الثقافي الجديد؛ فبينما وصلت اللغة العربية إلى بلاد الأندلسِ وما وراءها، احتفظ الفرس بلغتهم وبنزعتهم الثقافية أمام المد العربي الذي كان لهم إسهامات فيه. ويذكر التاريخ أنّ أكابر علماء المُسلمين كانوا من أصلٍ فارسي أمثال ابن سينا والبخاري والرازي، حتى أنّ «سيبويه» إمام النُحَاة وأحد أعلام اللغة العربية هو أيضًا فارسي. ليس هذا فقط، فتأثيرهم في الدولة الإسلامية وصل إلى الدواوين والنقود والحياة الاقتصادية التي كانت بلغتهم قبل أن يُقرّر الأمويون تعريبها، كما كانوا أيضًا أحد أسباب سقوط الدولة الأموية التي نقموا عليها.
ظل الفرسُ قطعة تابعة للخلافة العباسية حتى بعد انفصالهم وتأسيسهم «الدولة الطاهرية» في خُراسان على يد طاهر بن الحسين، قائد الخليفة المأمون، المشهور باعترافه شكليًّا بولائه للخليفة. وتتابعت سقوط الإمبراطوريات وتأسيسها حتى جاء عام 1494، عندما تأسست «الدولة الصفوية» والتي تزامنت مع وجود الخلافة العُثمانية، آخر دولة مسلمة سنية عظمى، والتي سيطرت على العالم الإسلامي وهدّدت الجار الفارسي الذي ناصبها العداء.
وحتى لا تسقط دولتهم أمام سهام الخلافة العثمانية، اعتمد الصفويون خُطة جديدة؛ فعمدوا إلى إحياء النزعة الفارسية،كما ألغوا المذهب السُنيّ السائد منذ ثمانية قرون، وفرضوا التشيع بالقوة على المجتمع الفارسي، وأقرّوا المذهب الشيعي الإثني عشري مذهبًا رسميًا للدولة، وعملوا على إزكاء الفوقية العلوية مقابل المذهب السُني، وتعظيم دور رجال الدين، وبهذا انفصلت دولتهم سياسيًا وجغرافيًا عن الدولة العُثمانية بالإضافة إلى الاحتفاظ بلغتهم وثقافتهم الخاصة، لذا كانت النزعة الفارسية هي أحد الأسباب التي أقامت دولتهم.
المفارقة المثيرة أنّ الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، لم تقم على أسس دينية فقط كما يروّج الاسم الذي اتّخذه الثوار لتلك الثورة؛ فالشاه محمد رضا بهلوي الذي أطلق مشروعه «الثورة البيضاء» أحد الأسباب التي مهّدت للثورة الإيرانية والذي كان صديقًا لكمال أتاتورك – مؤسّس تركيا الحديثة بعد إسقاط الدولة العثمانية – عمل على استعارة النموذج الغربيّ بكامله لدولته الحديثة، شمل كل مؤسسات الدولة والمجتمع، وبدأت موجة التغريب تضرب بقوة في المجتمع المحافظ، ورغم أنه نجح في فرض التغييرات العلمانية، إلا أن الصلاحيات التي سحبها من رجال الدين الذين اضطهدهم ساهمت في توجيه مسار الثورة فيما بعد.
لذا عمد نظام ما بعد الثورة مباشرة إلى إقرار النزعة الفارسية الفردية التي لا تتفق فعليًا مع المذهب الإثني عشري القائم على فكرة ولاية الإمام على الأمة الإسلامية قاطبة؛ لذا كان الحل كي تتفق الفكرة الدينية مع السياسية هو أنّ يُقر الدستور الإيراني مبدأ «استمرار الثورة الإيرانية ودعم الجمهورية للمستضعفين ضد المستكبرين في أي نقطة في العالم»، ما يعني أن يُصبح لإيران فوقية وأذرع في كل الدول الإسلامية، ونشر المذهب الشيعي تمهيدًا لتحقيق حُلم استعادة الدولة الشيعية.
ولأن الحُلم الفاطمي والنزعة الفوقية لن تكتمل بالتمدُّد الشيعي فقط؛ حرصت إيران بعد تعطيل الملف النووي مؤقتًا بتوقيع اتفاقية 2015 التي انسحبت منها واشنطن مؤخرً إلى التوجه مباشرة إلى اقتحام الفضاء عبر وكالة الفضاء الإيرانية، كما أنها استطاعت العام الماضي إرسال قمرها الصناعي الخامس إلى الفضاء وسط غضب أمريكي، وصف الإطلاق بأنه عمل استفزازي، كما أن طهران تمتلك ثلاث جامعات ضمن أفضل 10 جامعات على مستوى العالم وفقًا للتصنيف الأخير «CWUR». وفي مجال المسابقات الدينية فتمتلك عددًا من القُراء، وأبرزهم الشيخ أحمد أبو القاسمي الذي سافر لأكثر من 100 جولة دعائية في 30 دولة حول العالم، وهو أحد أهم أسلحة إيران الناعمة لانتزاع الألقاب والمراكز في المسابقات القرآنية من السعودية ومصر، وإثبات أنّ الدولة الشيعية «أكثر تمسّكًا بالإسلام» من الدول السُنيّة.
2-الحياة السياسية لا تسمح ببديل غير إسلامي
وكانت المشكلة أن «خميني باريس» كان غير «خميني طهران».*أبو الحسن بني صدر – أول رئيس جمهورية في إيران بعد الثورة
بعد سقوط نظام الشاه، أصبحت إيران الجديدة خليطًا بين التيارات الليبرالية والإسلامية، وفي الوقت الذي أصبح فيه الخميني أول مرشد للثورة إرساءً لمبدأ «ولاية الفقيه»، تم انتخاب أبو الحسن بني صدر الليبرالي أول رئيس للجمهورية الإسلامية، وفي نفس الوقت عمد رجال الدين إلى إرساء النظام الوليد على مبدأ «الديموقراطية الدينية» فسارعوا لإنشاء الحزب الجمهوري الإسلامي، تزامنًا مع قرار الخُميني بتشكيل مجلس الشورى الثوري، مما دفع التيارات العلمانية إلى إنشاء جبهة يسارية تقف ضد طموح رجال الدين، لكن الخميني كان أسرع من الجميع فدعا إلى استفتاء عام على الهوية الإسلامية للنظام الجديد، وكانت النتيجة أن 98% من الإيرانيين صوتوا بنعم لنظام جمهوري إسلامي.
بخلو الساحة للإسلاميين، لم تنتهِ المشاكل، ففي عام 1988 بينما كان خامنئي وقتها رئيسًا لإيران؛ وقعت أزمة تشريعية ترتب عليها بروز انشقاقات داخل الحزب الحاكم؛ على إثر إصدار مجلس الشورى عدة قوانين متعلقة بالعمل والإصلاح الزراعي، لكن مجلس صيانة الدستور رفض تمريرها، ليقوم وزير العمل بالاتصال بالخميني الذي أعطاه الضوء الأخضر لتمرير القانون دون موافقة المجلس؛ وبينما كان تيار اليمين -المحافظون- في الحزب يوافق على القوانين ويُقر بالولاية المُطلقة للولي الفقيه، كان تيار اليسار -الإصلاحيون- بزعامة خامنئي يعتقد بعدم شرعية قانون الإصلاح الزراعي وعدم صلاحية مجلس الشورى والدولة لإصدار قانون خارج مجال الشريعة، إضافة لتقييد صلاحية الولي الفقيه. المثير أنه بعد وفاة الخميني أصبح خامنئي هو المرشد الإيراني، وأصبح الرجل في منصبه الجديد يجمع في يديه السُلطة المُطلقة التي رفضها حين كان رئيسًا للجمهورية.
إيران اليوم في ظل خامنئي خالية تمامًا من الأحزاب اليسارية والاشتراكية، فأحد شروط إنشاء الأحزاب هو الاعتراف بولاية الفقيه، ما يجعل الأحزاب القائمة كلها مُتشابهة، ولا يسمح ببديل غير إسلامي، أما الجهات المعارضة وأبرزها «منظمة مجاهدي خلق» فتعتبر أكبر كتلة معارضة إيرانية تتخذ من فرنسا مقرًا لها، وتتهمها السُلطات في كل احتجاجات تشهدها البلاد، أما الأحزاب اليسارية مثل حزب توده المحظور وحزب الأمة الإيراني فيعملان من الخارج أيضًا نظرًا لحملات التضييق.
المعارضة الحقيقة في إيران تتمثل في الصراع القديم المتجدّد بين المحافظين والإصلاحيين اللذين يُمثلان أجنحة السُلطة عن يمين ويسار خامنئي؛ فالرئيس الإيراني حسن روحاني يُمثل تيار الإصلاحيين الذي يتبنى التقارب مع الغرب والخروج من العزلة الإقليمية وسياسة الاقتصاد المفتوح، أما الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد فيُمثل أبرز المعارضين المحسوبين على التيار المحافظ المتشدد الذي يتبنى سياسة الاقتصاد المُغلق والاصطدام مع الغرب وكلاهما يستمد نفوذه من رأس الدولة الدينية مباشرة، والرئاسة في إيران تتقلب بين التيار الإصلاحي والمتشدد، حتى أن تشكيل الحكومة يجمعهم دومًا، ورغم اختلافهم إلا أنّ وجودهم يمنع انهيار «ولاية الفقيه».
3-الحرس الثوري.. ذراع النظام المتوحشة للبقاء
إننى أسمع دوي مدافعك، ولكنني حتى الآن لا أرى أثرًا لمُشاتك.*هيكل موجهًا حديثه للخميني
في اللقاء الأول الذي جمع الخميني بالصحافي المصري محمد حسنين هيكل في باريس، طرح عليه الأخير سؤاله: «إنني أظن أنك بسلاح الدين تستطيع أن تقوم بدور المدفعية بعيدة المدى وأن تهدم نظام الشاه فوق رؤوس أصحابه.. إنني أسمع دوي مدافعك، ولكني حتى الآن لا أرى أثرًا لمُشاتك؛ تحقيق النصر فى الثورة كما فى الحرب يتحقّق بالمشاة الذين يحتلون المواقع ويتولّون تطهيرها ويتحملون مسئولية المحافظة عليها»؛ يقول هيكل في كتابه «مدافع آية الله»: «لم يكن للخميني في هذا الوقت إجابة مقنعة على هذا السؤال».
ويبدو أنّ السؤال الصعب سُرعان ما وجد الخميني إجابته حين عاد إلى طهران، فكان القرار السريع الذي اتخذه هو تأسيس الحرس الثوري الإيراني، تكون مهمته الأولى حماية نظام الجمهورية الإسلامية في الداخل والخارج، ومنع التدخل الأجنبي بالإضافة إلى منع الانقلابات العسكرية أو الحركات التي تهدد بقاء المرشد الأعلى للثورة، أو التي تستهدف صلاحياته، أي أنّ الخميني وضع لنفسه جيشًا لحماية نفسه من غدر قادة الجيش أو المعارضين الرافضين لولاية الفقيه.
يبلغ تعداد الحرس الثوري نحو 125 ألف عنصر، يتلقى أوامره من المرشد مباشرةً ولا يخضع لأية رقابة، وقد تحوّل تدريجيًا من مجرد ذراع عسكري، إلى مؤسسات مترابطة تسيطر على كبرى المناصب السياسية والإعلامية والاقتصادية؛ ويسيطر الحرس الثوري على ثلث الاقتصاد الإيراني من الداخل عبر مئات الشركات التي تقُدر قيمتها بأكثر من 100 مليار دولار، التي تستحوذ على مجال النفط والغاز والصناعات البتروكيماوية، بالإضافة إلى المجال الأبرز في مشاريع البنية التحتية عبر شركة «خاتم الأنبياء» التي يبلغ تعداد العاملين بها نحو 160 ألف.
نفوذه القوي البعيد عن رقابة السُلطة التنفيذية، ومكانته الخاصة عند خامنئي دفع الحرس الثوري إلى الدخول مباشرة إلى السياسة والاصطدام بالرؤساء الإيرانيين؛ فعقب موت الخميني عام 1989، حاول الرئيس الإيراني وقتها علي أكبر هاشمي رفسنجاني تحييد الحرس الثوري عن الدور السياسي، وذلك ضمن مساعيه لدمج مؤسسات الثورة في مؤسسات الدولة لكنه فشل. وفي عام 2002 اصطدم الرئيس محمد خاتمي بالمؤسسة التي لا تخضع له، إثر قيامها بتهديده بأنها ستتحرك ضده إذا استمر في سياساته التي تتبع التيار الإصلاحي.
وفي عام 2009 عقب فوز الرئيس أحمدي نجاد – وهو ابن الحرس الثوري – بولاية رئاسية ثانية، شهدت البلاد احتجاجات عُرفت باسم «الثورة الخضراء» بعد اتهامات للنظام بتزوير الانتخابات، وقامت الفرق الخاصة للحرس الثوري بسحق المتظاهرين الذين انهزموا أمام أقوى مؤسسة في البلاد.
وبوصول الرئيس حسن روحاني إلى السُلطة خلفًا لأحمدي نجاد، انتهى عهد التقارب الذي كان بين مؤسسة الرئاسة والحرس الثوري؛ وبدأ عهد الانتقاد العلني والرسمي المتبادل، فروحاني انتقد مرارًا تدخل الحرس الثوري في الأمور المتعلقة باقتصاد البلاد، على خلفية مطالبة القائد السابق للحرس الثوري بتسليم إدارة الاقتصاد للحرس، بدعوى عدم إدارة الحكومة الملف الاقتصادي في البلاد بشكل جيد.
4-الحروب.. النظام يخرج دومًا منتصرًا من هزائمه
سنتجرع كأس السُم وسنقبل بوقف إطلاق النار.*الخميني في حرب الخليج الأولى
قبل سقوط نظام الشاه؛ كانت السفارة الأمريكية في طهران هي جيش الشاه الحقيقي لحفظ سلطانه؛ ولمّا كانت طهران هي القوة العظمى في الشرق الأوسط – إلى جانب تل أبيب – التي تحفظ مصالح واشنطن، اختارت الولايات المتحدة مدير استخباراتها الأسبق ريتشارد هيلمز ليكون سفيرها في طهران عام 1973؛ وبحسب ما ذكره هيكل في كتابه «مدافع آية الله»، فقد كان الشاه يُقابل السفير الأمريكي مرة كل أسبوع؛ وبعد قيام الثورة بفترة قصيرة قُبض على مدير السافاك وقُتل رميًا بالرصاص، لكنه قبل أن يموت أخبر الثوار بمعلومة ستفسد العلاقات الإيرانية الأمريكية 40 عامًا إلى اليوم.
حصل الثوار على برقيات سرية متبادلة بين حكومة الشاه والولايات المتحدة، والتي تضمنت الإجراءات اللازمة لحماية الشاه من التظاهرات، ولمّا كان للشعب الإيراني وقتها ذكرى سيئة بشأن انقلاب 1953 المعروف باسم العملية «أجاكس» حين استعان الشاه بواشنطن وبريطانيا من أجل إزاحة رئيس الوزراء محمد مصدق عبر انقلابٍ عسكري، لذا كان الحل الوحيد في نظر الثوار هو اقتحام السفارة الأمريكية في طهران، لتقرّر واشنطن فرض عقوبات اقتصادية على النظام الإسلامي الذي وجد في عداء الولايات المتحدة سببًا للبقاء، فترسخت فكرة أنّ واشنطن هي العدو، كما زاد الحصار الاقتصادي الغربي من تماسك الجماهير خلف الثورة وأهدافها.
مرة أخرى تضطر إيران عام 1980 إلى الدخول في حرب الخليج الأولى، وستحصل فيها العراق على دعم واشنطن، والاتحاد السوفيتي، والصين، وفرنسا، وبريطانيا، وأغلبية الدول العربية، ومنها الكويت التي فتحت موانيها للجيش العراقي، حتى أنّ الأمم المتحدة لم تعترف بأنّ العراق هو من أشعل فتيل الحرب، وبعد ثماني سنوات من النزيف الاقتصادي والعسكري، توّقع إيران مُضطرةً هُدنة «كأس السُمّ» -كما يُسمّونها- لوقف الحرب التي خلّفت وراءها نحو مليون قتيل، وأكثر من مليار دولار خسائر، لكنّ النظام الإسلامي استفاد من الخسائر في الترويج لنفسه بتفعيل نظرية المؤامرة التي تستهدف القضاء على الثورة الإيرانية التي لم تتبع المعسكر الشرقي – الاتحاد السوفييتي-، ولا المعسكر الغربي بقيادة واشنطن.
وخلال السنوات التي تكبدت فيها طهران خسائر من الحصار الاقتصادي، إضافة إلى حروب النفط التي تقودها السعودية، بات النظام الإسلامي في النهاية يحتفظ بعلاقات وطيدة بجماعة الإخوان المسلمين وبحركة حماس في غزة، إضافة إلى أذرعه في الحكومة العراقية، ودوره في بقاء نظام الأسد السوري، إضافة لتمويله حزب الله في لبنان، وجماعة الحوثيين في اليمن، بخلاف علاقاته الهادئة بأنظمة عُمان وقطر والكويت ومصر وأخيرًا الأردن، وهي نتائج ربما ما كان سيحصل عليها لو لم يدخل تلك النزاعات.
ورغم تصدّر التيار الإصلاحي المشهد برئاسة حسن روحاني الذي ينتهج سياسة التقارب مع الغرب، والذي تحرك جديًا لمحاولة إعادة العلاقات مع خصومه ومنها السعودية، لكنه دومًا يُقابل بشروط التخلي عن نفوذه الإقليمي وتنازله عن مواقفه السياسية، وهو ما تعتبره إيران سببًا لبقائها وضمانًا لأمنها القومي.
5-تحايل إيران على العقوبات الاقتصادية
العقوبات الأخيرة التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إيران بعد انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، ليست هي أولى العقوبات المفروضة على إيران؛ فواشنطن منذ أزمة احتجاز الرهائن وهي تفرض عقوباتها من أجل تركيع النظام الإسلامي لمطالبها، أو إسقاطه عبر الاحتجاجات التي سيتكفل بها الشعب ردّة فعل على الضرر الاقتصادي اللاحق جرّاء هذه العقوبة، بالإضافة إلى الفساد الحكومة؛ لكنّ إيران لطالما تحايلت على العقوبات بطرق سرية وعلنية.
فالدول التي لها تحالف استراتيجي معها وأبرزها روسيا وتركيا والهند لم تنجرّ إلى السياسة الأمريكية، وسبق للصين مؤخرًا أن رفضت طلب واشنطن بتقليص حجم استيرادها من النفط الإيراني، ما سيوفّر ثباتًا في حجم العملة الصعبة التي ستحصل عليه طهران، ومن جهة أخرى لطالما كان العراق هو السوق الإيراني الكبير لتجار العُملة في تجميع الدولار من الأسواق العراقية، رغم أن تلك السياسات تؤدي إلى انخفاض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي.
من جهة أخرى، فرجال الأعمال التابعون للحرس الثوري الإيراني يقومون بشراء جوازات سفر أجنبية من عدة دول، بغرض استخدامها في المجالات التي تستهدفها عقوبات دولية مفروضة على إيران، وأبرزها الملاحة والنفط والغاز والعملات الأجنبية والذهب، إذ تتيح لهم الحصول على جنسيات أخرى، السفر دون تأشيرة واستخدامها في فتح حسابات في بنوك أجنبية وتسجيل شركات وهمية في الخارج تقوم بالاستيراد والتصدير لصالحها، وهي نفس السياسة التي تتبعها كوريا الشمالية.
العقوبات في أساسها تستهدف مقاطعة المصارف الإيرانية، وتجميد أملاك البنك المركزي، وقطع إيران عن منظومة التحويلات الغربية، ومقاطعة استيراد النفط والمنتجات البتروكيميائية الإيرانية ومقاطعة التأمين البحري لناقلات النفط والمنتجات البتروكيماوية؛ لكنّ الخريطة التجارية الإيرانية لا تستهدف بالأساس الأسواق الأوروبية، فخط التجارة الرئيس يمر عبر دول آسيا والشرق الأقصى، ونحو 20% فقط مع الغرب والكتلة السوفييتية السابقة، وهو ما يقلّل جديًّا من جدوى العقوبات.
0 comments: