Sunday, October 8, 2017

حين تحولت إيران إلى مرض..

حين تحولت إيران إلى مرض..

حين تحولت إيران إلى مرض..
ادريس هاني

بينما يعتقد البعض أنّ الإكثار من هجاء إيران في الحق والباطل هو "شطارة" تملّق وارتزاق نرى انّ هذا الهوس الإيرانوفوبي مضرّ بالصحة النفسية ويتهدد الاستقرار والأمن العقليين..إنّ هجاء إيران بات ظاهرة تتطلّب إحضار كرسي الصابر لتحليل هذا المرض العضال الذي نتج عن إدمان عصير النّفط والغاز..تحولت مشكلة إيران في العقل العربي المتنفّط إلى مشكلة أنطولوجية، ثم سرعان ما تحوّلت إلى عصاب..شطر من هذا العصاب يمكن مقاربته بعلم النّفس الأدليري الذي يدور حول عقدة حقارة..إنهم يحسدون إيران لانها بنت لنفسها نموذجا علميا اكتسحت به فيزياء الكوانتا وفيزياء الفراغ بينما لا زال العقل الوهابي حبيس الأوراق الصفراء يقلبها في ضرب من التّكلّم النّفطي(الطور التاريخي لتنفيط علم الكلام)..وتارة يمكن مقاربة هذا العصاب فرويديا حيث يدور حول الهيستيريا..لا أريد ان أبتعد كثيرا في مناقشة تفاصيل المغالطات في هذا الهجاء المرضي، ذلك لأنّ السؤال المطروح: هل يستغني أهل الهجاء عن معاقرة ما تقدمه إيران في مجال الأفكار والاستفادة منها في السّر؟ هل يستطيع أهل الهجاء أن يستغنوا عن الجديد الإيراني في مجال الفكر الديني والثقافي؟ يقرؤون للإيرانيين في السّر ويلعنونهم بالنهار..في كنانيشهم المليئة بالتكرار والسرقات الأدبية نلاحظ مضغا لا نهائيا من الأحكام المغالطة: إيران..إيران..إيران...(أوووووووف راكم طلعتو في الراس..واش ما عيتوش)..
لكن لا زلت أسأل: ما هو الشيء البريء والإيجابي في إيران؟ هذا سؤال لا يمكن ان يجيب عليه المرضى..فالمريض لا يرى إلا العما..إيران تصنع وهجّاؤوها يتحرقون..تنتج الأفكار وخصومها منهمكون في البكاء على الأطلال..هذا ما فعلته النفطولوجيا في العقل العربي..اللغو والتبسيط والعصاب..حينما ينتهي خزّان الفكر المنقول يبدأ الزعيق ولعن حظّ إيران وكأنها سبب تخلفنا..الإيرانوفوبيا أو المرض بإيران ظاهرة متفشية وأحيانا هناك من يحاول تعزيز هذا المرض بأساليب فقدت وهجها..ثم لا يخفى أنّ هناك جانب آخر يفسّر هذه الضحالة في الهجاء الذي لا ينفع لا في الدين ولا في الدنيا، وهو الارتزاق والبعد الوظيفي..قسم وفي تملّق العبيد يظنون أنّهم قادرون على أن يكونوا مقنعين دائما بهلاوسهم التي يدوس عليها الزمان ويقضمها كالأرضة..يحرصون على أن تبقى الكراهية سارية المفعول لكي يكون لهم دور في بيئة مهسترة بالكراهية لإيران، لأنذ الكراهية لإيران تجلب البترودولار..هؤلاء يشعرون بضرورة تحيين هلاوسهم عسى يبقى لهم دور في هذا المارستان..صناعة الكراهية والمغالطة لها وقت محدد تنتهي إلى الروتين القاتل..إذا كان هناك شيء يتغلغل في بيئتنا ، فهم صناع التّفاهة وركب الرداءة الذي يساهم في استفحال هذا العصاب المزمن..هل يملك بعض خصوم إيران الإحساس بالثقة في النفس قليلا لكي ينسوا إيران ويبدعوا لنا من بدائلهم ما يبهر العقول ويستميل النفوس؟ هل يملكون شيئا من الفروسية لينتهوا من حالة البكائية الدّائمة وندب حظّهم العاثر؟ وإذا كانت إيران تتغلغل فهل لكم القابلية والإقناع لممارسة التغلغل المضاد؟ إنّه هجاء منتوف يحمل أثر الانحطاط الأخلاقي والفكري ويؤشّر على حالة العدوانية المفرطة و الإفلاس المزمن..
اللهم اشف مرضانا..
ادريس هاني
6/10/2017


المأزق التاريخي للسلفية

المأزق التاريخي للسلفية

المأزق التاريخي للسلفية
ادريس هاني

ليس في وسع السلفية إلاّ أن تنتج العنف أو الانحطاط، فهي حركة تحت العقل..حركة غريزية وليست حصيلة فكر..وما بين أيديها تلفيق تاريخي لتبرير شرعية وجودها..أستدل بالسلفية على التأكيد على وجود حنين يصل حدّ الوعي الشّقي ينتاب الأموسابان إلى الماضي..هنا العودة إلى الماضي ليست ميلا تاريخيا بل هو مرض..فالسلفي لا يحبّ الماضي ولكنه يجد في الماضي إمكانية التحريف..هو يعيش اللحظة بعنوان الماضي لتحريف اشتراطات الزمن..هو يكره الماضي لأنّ السلفي أكثر إنسان يكره التحقيق التاريخي..هو يهرب واقعه في تاريخ متخيل ليهيمن على اللحظة بتأويل يفسد التاريخ والجغرافيا معا..لا أفاجأ في كل هذه المفارقات التي يحصيها عليهم خصومهم لأنّهم كائنات غير زمنية..والرجوع إلى الماضي حيلة سيكلوجية لفئة تكفر بالزمن واستحقاقاته..وللسلفية دبيب في روع كلّ كائن لم يحسم مع عدد من الأسئلة منها: أي معنى، وما العمل؟ من يخشى المعنى ومن التبست عليه دروب الحقائق سقط في الأسهل: ما كان عليه السلف...لكن أي سلف يوجد في مخيخ السلفي؟ إنّه الغنم..وأبا جهل يرعى الحكمة..ومعاوية يرسي معالم الدين..السلفية مرض عضال..أقصد الأرتذكسية السلفية وفق المنهاج الذي اختطته هذه الطائفة وبموجبه كفرت الناس وقاتلت المدنيين ونشرت الظلام..اليوم تواجه السلفية مصيرا غامضا..ولذا هي تسعى اليوم للتلوّي والتلون في أشكال تعبيرية مختلفة..في فترة من الفترات هربوا نحو البرمجة اللغوية العصبية وظنوا انها الشكل الفارق للعقلانية، وكل ذلك ليخفوا الهشاشة..ثم سلكوا أساليب في الدعوة في شكل سلفي يرقص بالوولكمان يلبس سروال قصير مع تسريحة شعر بينما اللحية على طريقة جورج مايكل: (سلفي بخاطر تيتيز)..وكل هذا ليحتالوا على العالم..يرتكز السلفي على مجموعة من العناوين تغري البسطاء، التركيز على الحنين للماضي النقي الصافي، لكنهم اليوم موصولون بالقذارة النفطية..هم ليسوا سلفية بل رجعية..رجوع إلى تاريخ ليس تاريخنا..هو تاريخ أعيد صياغته ليستجيب لبارانويا الهروب من الواقع واشتراطات الزمن والتسلط على التاريخ على أساس موقف لا تاريخي..هو ولغ في المازوت وليس في الدين..
نتساءل مرة أخرى: ماذا يعني أن تكون سلفيا في زمن يهرول إلى الأشكال الأكثر تعقيدا للحاضر والمستقبل؟ ألا يشعر هؤلاء بأنهم أحناط تتحرك على ركح كوميديا الزمن؟ أليسوا يخدعوننا حين يقدمون لنا أقراصا تنويمية تصلك بماضي اليقين الوحيد الذي ينطوي عليه هو أنّه ماضي صراعي، تناقضي، هشّ..بينما هم لا ينسون نصيبهم من الحاضر والمستبقل، في رأس كل منهم يسكن هارون الرشيد..يقتلون العالم من أجل حور عين تحمل ملامح المومس العمياء..خربوا الدين والدنيا مثل الكانيبال، بينما سرعان ما يلتهمون إلههم كالحلوى عند المساء..تمرض النفوس والأبدان وكذلك الثقافة والمجتمع..فالسلفية مرض سوسيو_ديني..مرض معدي وأحيانا قاتل..
ادريس هاني:5/10/2017


Sunday, September 10, 2017

سوريا انتصرت وليس: "ستنتصر"

سوريا انتصرت وليس: "ستنتصر"

سوريا انتصرت وليس: "ستنتصر"

إنّنا لا نفعل أكثر من أنّنا نكتب تاريخ مستقبل سوريا، فأما ماضيها فهو في اللاّوعي التّاريخي لكل إنسان متحضّر وفيّ لأصول الاجتماع الثقافي. انتصارات سوريا اليوم لا تدهشنا لأنّنا آمنّا بهذا المصير الجميل. ففي كلّ المحطّات التي عانت فيها سوريا من العدوان كان اليقين ينصبّ فوق رؤوسنا لا يسمح بطروء أدنى أحاسيس الرّيبة..يقينا شامخا وهو يطلّ على الشّام كجبل قاسيون الصامت الحزين والشاهد على كلّ الانتصارات. سوريا انتصرت هكذا تحدّثنا بصيغة الماضي..لأنّ مقدّمات الانتصار ظهرت ملامحها قبل سنوات وما تبقّى هي رتوش وتدارك لتمزّقات جيوب موصولة بإرادات إقليمية ودولية قرّرت خوض حرب الاستنزاف بالوكالة. غير أنّ الأمور بلغت أوجها، حين ظهرت ملامح الانتصار وبدا التدخل الأمريكي والصهيوني مباشرة في فترات مختلفة، هذا إنّما يؤكّد على أنّ الحرب بالوكالة لم تعد عنوانا مناسبا. لكن قراءة مشاهد الانتصار تعطينا فكرة عن طبيعة اللعبة الإقليمية والدّولية.
الانتصار السوري درس تاريخي لجبهة التّبعية والملّة الرّجعية باعتباره انتصار على مخطّط إمبريالي يتجاوز المحاور الإقليمية الصغيرة. حاربت سوريا في البداية من دون حلفاء ثم سرعان ما التحق بها أصدقاؤها ليشكّلوا حلفا ممانعا متجانسا. كان لخصوم سوريا حلف كما كان لسوريا حلف لأنّ المعركة هي بين جبهتين ومشروعين. ولقد تأكّد أنّ سوريا كانت صائبة في اختياراتها، لأنّها لم تراهن على الرجعية رهانا استراتيجيا. أظهر انتصار دير الزّور وفكّ الحصار عن المطار قدرة الجيش العربي السوري وحلفائه على اختراق حصون الإرهاب والعدوان. فعلى الرغم من التشويش الذي قامت به قوى ما سمّي بالتحالف الأمريكي سواء في الميدان أو على صعيد التلويح بالعقوبات، فإنّ بلوغ مطار دير الزور هو فتح استراتيجي له دلالته الكبيرة إذا استحضرنا أنّ المعارك دارت في بيئة استراتيجية حسّاسة. هذه الحرب بالمعنى الصّريح تشرف عليها أمريكا وإسرائيل، والباقي إمّا محاور سياسية وإمّا أدوات انتفخت بالتمكين الإقليمي والدّولي. وفي هذا السّياق شكّل ظهور الحاج أبو مصطفى القائد الميداني للمقاومة في دير الزور رسالة واضحة أيضا تؤكّد على المصير المشترك لخطّ الممانعة وبأنّ المقاومة التي هي عنوان المواجهة مع إسرائيل توجد حيث يجب ان تكون جنبا إلى جنب مع الجيش العربي السوري الذي هو في نهاية المطاف جيش مقاوم. وهنا تنهار كل الدروس المغالطة التي انهالت على المقاومة حين اتخذت القرار الصائب بالدخول إلى سوريا وفق تنسيق محكم مع القيادة السورية، أولئك الذين يجزّؤون بين المشكلة السورية والقضية الفلسطينية أو المواجهة مع إسرائيل، الخطاب البائس الذي تبنّاه حتى بعض المحسوبين على القرب، وهم بذلك كرّسوا العدوان على سوريا باعتبار أنّ منشأ الأزمة داخلي بينما منشؤها هو العدوان الخارجي. تأخّر خبراء الخرائط الملوّنة وانتصرت المقاومة التي هي ملّة واحدة كما أنّ الرجعية وجبهة التّبعية هي ملّة واحدة. الجواب على سؤال: لماذا دخلت المقاومة إلى القصير جوابه في انتصارات حلب والجرود والقلمون ودير الزور.
خلال سنوات من المواجهة تمزّقت خرائط ومخططات كما أنّ الكثير من المحللين إمّا هربوا إلى الوراء أو هربوا إلى الأمام وكثيرون تراجعوا من دون اعتراف بالخطأ وأصبحوا في طليعة المبشّرين بانتصار سوريا عسى أن يخفوا تاريخا من السخرية البليدة بسوريا. وعلى كلّ حال، فإنّ لظهور القائد الميداني للمقاومة بدير الزور نوعا من لعبة الكاش كاش بين إسرائيل والمقاومة. فما تحدثت عنه إيديعوت أحرانوت من أنّ إسرائيل كانت على علم بذهاب السيد حسن نصر الله إلى دمشق، هو جواب للرأي العام الإسرائيلي الذي لم يعد يثق بقيادته، لأنّ الأمر هنا لا يتعلّق بانتقال مجاملة بل هو حضور ومتابعة وانغماس في معركة تحدّي، وبأنّ الحرب الخفية بين إسرائيل والمقاومة في سوريا لها قصّة طويلة ومعقّدة. هذا يؤكّد أنّ قادة المقاومة يقومون بواجبهم ويحضرون في الميدان وينسّقون وهم مستعدون لخوض معارك شرف قصوى ضدّ أي عدوان إسرائيلي من شأن  سوريا أن تتعرّض له هذه المرة للتشويش على انتصارها الذي يعتبر أمرا غير مقبول من  كيان الاحتلال.
اليوم باتت اللعبة مكشوفة، وأدواتها معروفة، وصناع قراراتها معروفين، وحتى تحقيق الترويض الكامل للرأي العام الإقليمي والدولي بأنّ سوريا انتصرت وبأنّ الأسد هو جزء لا يتجزّأ من مصير المنطقة، وبأنّ ركاما من المخطّطات البديلة انهار أمام الصمود الأسطوري لحلف المقاومة، فإنّ المنطقة مقبلة على مرحلة استراتيجية انتقالية. الحقيقة الوحيدة اليقينية في هذا التّحوّل هو أنّ الانتصار في سوريا هو حقيقة استراتيجية لها أصول وآثار وليست مسألة إنشاء أو بلاغة حربية...
ادريس هاني:10/9/2017


الإعلام وسياسة المغالطة.. مغالطة الحصر العقلي المغشوش

الإعلام وسياسة المغالطة..
مغالطة الحصر العقلي المغشوش

الإعلام وسياسة المغالطة(2)
مغالطة الحصر العقلي المغشوش

لا أحتاج إلى التذكير بأنّ العلاقة بين المنطق والإعلام هي من المتانة بمكان بحيث يصبح من الخطأ اعتبار أنّ الصناعة المنطقية أجنبية عن هذا الاختصاص. لنتذكّر أيضا أنّ المنطق معني بموضوع الإعلام بوصف هذا الأخير في أصل نشأته الوظيفية هو رسالة تواصلية. ووحده المنطق قادر على التمييز بين مستويات وطبقات التواصل باعتبار أنّ القسم الأكبر من مسببات أزمة التواصل هو المغالطة. وفي الإعلام يتم تكريس الأزمات بتقنيات محترفة من التغليط، بل حتى مفهوم المهنية خضع لهذا النوع من المغالطة بحيث يقصد منها توريّا(بالتاء= المقصود الحديث بلفظ يحمل معنى آخر تقصده ولا يقصده المتلقي) تقنية خداع المتلقّي من دون إحساسه بأنك تغالطه. القيمة الجديدة لهذا النوع من الأخلاق المهنية(professional ethics ) هو أن لا يشعر المتلقّي بأنّك تخدعه،أي أن المهنية لا تمنع من الخداع حين يكون بتقنيات ومهارات عالية، بل يصبح الخداع لا أخلاقيا حين لا يكون تقنيّا.
وهناك مغالطة أخرى تستند إليها الوسائط الوظيفية في احتواء الوعي هو ما يمكن التعبير عنه بمغالطة الحصر العقلي المغشوش. وقيد المغشوشية هنا ناظر في الانحراف الذي يصيب هذا المفهوم باعتباره مفهوما منطقيّا. ومعلوم أنّ المغالطة تعتمد صورة الصدق ومنطقه بينما هي في حقيقتها تخفي بناءها الهشّ وخداعها على مستوى المقدّمات المنطقية. فالمنطق في نظري ليس دائما عاصما للفكر من الخطأ بل هو أيضا مجال للاستغلال والخداع ولا يكاد يفطن لهذا النوع من الاستغلال إلاّ من تفنّن في هذه الصناعة وأحزر علما بكل أشكال المغالطة باعتبارها هي الشكل الأخطر في استغلال المنطق. ماذا يا ترى أقصد بمغالطة الحصر العقلي المغشوش؟
الحصر في المنطق إمّا استقرائي يقوم على تتبّع الحالات والعينات الكثيرة التي يحصل معها اليقين القائم على الإطمئنان أو حصرا عقليّا ثنائيا بين النّفي والإثبات، ناهيك عن صور أخرى للحصر يحدّدها المخاطِب في عدد محدّد حسب ما يقتضيه تعداد الأقسام والعيّنات أو النّقاط المناسبة كما يراها وهو حصر جعلي يبرره المخاطِب ويحصل في العادة حوله تسامح لأنّه في أسوأ الحالات لا يستوفي شروط كمال النظر  كما هو شأن تحديد محاور النقاش في قضية ما. وكما لا يخفى فإنّ المغالطة تنطلق في العادة من مقدّمات خاطئة وصولا إلى استنتاجات خاطئة، لكن في الغالب فإنّ خطأ المقدّمات لا يظهر لغير الخبير بتتبّع وتحقيق المقدّمات الصحيحة للاستدلال الصحيح، بل إذا كانت المغالطة تحضر في التخاطب غالبا بصورة عفوية قد لا يلقي المخاطِب لها بالا، ويكون المخاطِب كالمخاطَب كلاهما ضحيّة فساد المقدّمات وبالتالي فساد القياس الذي تقوم عليه المغالطة ففي مجال السياسة الإعلامية الموجّهة هناك وعي بخطوات الاستدلال باعتبار أنّ الإعلام يباشر مهمّته الحجاجية وفق مقدّمات فاسدة قد يلعب فيها الخداع البصري دورا أساسيا، حيث تكون المقدمة التي تستند إلى  تقنية الخداع البصري هي نفسها مقدّمة فاسدة تنتهي باستنتاج غير صحيح. فالخداع في الحجاج الميديولوجي يستعمل مقدّمات تركيبية من القول والسمع والصورة، ويكفي أن تكون واحدة من هذه المستويات مشوبة بالخداع لتفسد البوصة برمّتها لأنّها تنقل الفكرة في تواطؤ الصوت والصورة في آن معا. صورة من هذه المغالطة تكمن في أن نحرّف صورة الحصر نفسها من حصر استقرائي إلى حصر عقلي، وذلك بأنّ نكون أمام حالات متعددة لكن تعمل السياسة الإعلامية من خلال لعبة الاختزال وهي في حدّ ذاتها مغالطة تؤازر مغالطة الحصر المغشوش، بل إنّ مغالطة الاختزال التي سنتحدّث عنها هي جوهر مغالطة الحصر المغشوش، تنتهي بتحويل صورة الحصرين نحو بعضهما بحسب سياقات ولعبة الإقناع، أي أنّه أحيانا يقتضي الأمر أن نختزل الحالات في حالتي نفي وإثبات وتارة نلجأ إلى مغالطة اختلاق الحالات المغشوشة وهو مقابل الاختزال لنجعل من الحصر العقلي حصرا استقرائيا مغشوشا. وفي المثال الأوّل - مثال مغالطة الاختزال_ يفرض الوسيط الإعلامي على المحلل السياسي أن يجيب عن قضية تتطلّب تعداد حالات الحصر الاستقرائي بنعم أم لا، والمبرّر دائما هو أمران صورتهما:
- نحن لا نريد الخروج عن الموضوع، أجب: نعم أم لا
- نحن مضغوطين بالوقت، أجب: نعم أم لا
تدخل سلطة الزّمن في إيقاف تعداد الحالات ويجد المحلل نفسه أمام حصار حقيقي لا يمكن الخروج منه إلاّ بالاستسلام لمغالطة الاختزال وتحويل الحصر الاستقرائي إلى حصر عقلي.
وفي المثال الثّاني - مثال مغالطة توليد الحالات المغشوشة - يمارس الوسيط الإعلامي على المحلّل السياسي مغالطة رجل القشّ، بحيث يمارس شكلا من الهجوم على طريقته الحصرية باستعمال تهما ضدّ المحلل السياسي مثل: اتهامه بالاختزال والنزعة المتطرّفة ومحدودية الأفق والإرهاب الفكري والمبرر هو أمران:
- أنت تفرض رأيا محدودا على قضية لها أكثر من وجه ورأي، نحن ضدّ دكتاتورية الخطاب
- دعنا نستمع إلى آراء أخرى، نحن نعيش عصر الديمقراطية وعلى النّقاش أن يستمر
في العادة يلجأ الوسيط الإعلامي إلى اعتماد آراء فاقدة للمتانة المنطقية وربما استعان بآراء من الجمهور اعتمادا على الميكرو-طروطوار، أي اختلاط العلم بالجهل لتمييع الحقيقة وكسر سطوة المتانة المنطقية للاستدلال.
في الحصر العقلي يجد الوسيط الإعلامي مراده حينما يحبك روبورتاجا أو يخطط إلى رسالة إعلامية ما. مغالطة الاختزال هنا تقوم على حصر القضية في عيّنتين يوحي بهما برنامج الاتجاه المعاكس. هذا البرنامج يعكس استراتيجيا ميديولوجية تفرض على المتلقّي صورة لحجاج ثنائي يوحي تحت ضغط الصراع الصوتي والحركات الممسرحة إلى الإيحاء بأنّنا أمام رأيين وبالتالي بين حالة نفي وإثبات، بينما يغيب الرأي الثالث أو الحالات الأخرى. في الغالب ينتهي الحصر العقلي بنتيجة هي بخلاف الاستقرائي ، لكن حينما يتحوّل الحصر الاستقرائي إلى عقلي بإسناد من مغالطة الاختزال يصبح مثل حكم الحصر الاستقرائي خاوي الوفاض.
لمغالطة الحصر العقلي المغشوش صور كثيرة ومستويات متعدّدة، وعلى سبيل المثال يتمّ محاصرة المتلقّي في نموذجين أحدهما سيّئ والآخر أسوأ. وبالفعل تكون الوضعية هي وضعية نفي أم إثبات، أي ديكتاتورية الاختيار بينهما على نحو حصري ووجودي، مثلا يفرض الإعلام على المتلقي أن يختار بين: الإخوان أو القاعدة..بين داعش أو النّصرة..بين القرضاوي أو العرعور..بين الزرقاوي أو عزمي بشارة..بينما يظهر في الإعلام بوصفه حصرا عقليّا لكنه في الحقيقة ليس كذلك، لأنّ الحقيقة في الواقع لها طريق ثالث وحلول سياسية متنوعة واختيارات شتّى بل نحن هنا في الأصل أمام خداع يستند إلى الإلهاء البصري إلى حدّ القبول بفكرة أنّه ليس في الإمكان أبدع مما كان، بينما الحقيقة أنّ كليهما (السيّئ والأسوأ) هما من إنتاج الإعلام نفسه، ونجوميتهما مصطنعة، وكلاهما ينتميان لذات الأنظومة الجيوستراتيجية..وهي من التقنيات التي تستعمل حتى في الماركوتين بناء على سياسات احتكارية تفرض على المستهلك أن يختار بين أمرين أحلاهما مرّ..تنقلب صورة المغالطة ويصبح الإعلام المغالط بصدد تبرير فكرة أنّ الأمر لا يمكن أن يحصر بين نفي وإثبات أو بين أمرين وجوديين،وذلك نضرب له مثالا فيما جرى خلال سنوات من الحرب الميديولوجية الطاحنة بين محور الممانعة ومحور التّبعية. المحور الأخير اهتدى إلى تصوير مغشوش لموقف الممانعة باعتبارها تفرض خيارا بين الإستبداد والقضية الفلسطينية..ثم جاء الجواب على أنّه ليس من الضروري أن نفرّط في الديمقراطية من أجل أن نحرر فلسطين، لماذا لا نكرّس الديمقراطية أوّلا ثم نحرّر فلسطين..وطبعا هناك الكثير من صور التبرير التي تتيحها المديولوجيا، لكن هذه المغالطة تخفي الكثير من العوامل التي تحيلنا في نهاية المطاف إلى مفارقة كذّاب كريت: أي أنّ تصديق أمر ما يستند إلى تكذيبه والعكس، إذا صدق كذب وإذا كذب صدق. هنا تُحجب الوجوه الأخرى للحقيقة، حيث أنّ قضية الديمقراطية لها أسس في الاقتصاد السياسي وهي مرهونة لمصير السيادة والتحكم في مجال السياسات الإقليمية والدولية: وضع الدولة الوطنية داخل المجتمع الدولي، قضية الاختلال، دور الإمبريالية في مقايضة الديمقراطية بالاقتصاد، وقضايا كثيرة. وفي نهاية المطاف وجدنا أنّ المافحين عن هذه المغالطة خضعوا لمساومات واشتراطات فقدوا معها كلّ بكارتهم السياسية والمبدئية والاستراتيجية..إنّها المغالطة التي جعلت الحراكات العربية تنتهي إلى خراب أعاد المنطقة إلى عهد ما قبل الدّولة في حين ازدهر التّطرف وانهدم المعمار القيمي وهيمنة الهشاشة، وكلّ هذا لأنهم قبلوا يوما يمغالطة الاختزال ونقيضها، وكانوا ضحايا لسياسات إعلامية تجيد فنّ الاستحمار..
ادريس هاني :10/9/2017


Wednesday, September 6, 2017

المشكلة في بورما أكبر مما نتصوّر

المشكلة في بورما أكبر مما نتصوّر

المشكلة في بورما أكبر مما نتصوّر

كل شيء بات رهن للسياسة، حتى تلك الظواهر التي كانت تستمدّ فعاليتها من ذاتيتها في زمن الأنارشيات، فإن ميلاد الدّولة_الأمّة لازمته الشّمولية. إنّ الوجه الآخر للأنارشيا هو الهيمنة الأنطولوجيا للدّولة التي لا تقف في فورة شموليتها وقوتها عند إقصاء المجتمع فحسب بل تصبح الدّولة الضعيفة أهم ضحاياها أيضا. فالنظام الدولي نفسه يعيش حالة من الديكتاتورية حيث تبتلع الدول الكبيرة الدول الصغيرة ثم يأتي القانون لينتحب ويربت على كتف الضمير في عالم تتآكل فيه السيادات. وعلى هذا الأساس كان لا بدّ من التذكير أنّ سائر القضايا في العالم لم تعد قضايا مختلفة بل هي قضية واحدة من حيث أنّ المتحكّم بسائر الأزمات هو السياسة. البحث عن حلول للأزمات يكمن في فهم السياسة أصول لعبتها المعلن منها والخفي. هذا هو الذي يسمّى التآمر. إنّ نظرية المؤامرة هي شيء معطّل للنظر السياسي حين تنهض على النوايا لا على التحقيق. وهي من الحقائق التي إن مورست من دون تحقيق تحوّلت إلى هذيان. ولكن الوضعية التبسيطية لنظرية المؤامرة لا تلغي واقع مشاريع خطط الهيمنة. لا شيء إذن يمرّ خارج لعبة السياسة، بما في ذلك صراع الثقافات والأديان. مثلا مشاكل بورما وسياسة الإبادة الممنهجة للروهينغا وإن كانت قديمة لكن وجب تغيير مناهج التفسير لأنّها أعقد من أن تفسّر بنزاع طائفي. لا شكّ أنّ الروهينغا والأقلية المسلمة الصينية في ميانمار لهما علاقة بعقد تاريخية قديمة. ومن هنا فإنّ الحلول التي تقوم بها عدد من الدّول لا يتجاوز السماح ببناء مخيمات لجوء للمضطهدين في بورما، وهو ما يحقق الهدف الأساسي للمجموعات المتطرفة التي تحظى بتأييد من السلطات التي نهجت منذ سنوات سياسة الإقصاء والتهميش وعدم الاعتراف بالجنسية. إنّ دولتين عظمتين حول بورما لم تستطيعا حلّ هذه الأزمة، وربما باتت قضية الأقلية المسلمة في بورما أيضا رهينة بتناقضات جيوبوليتيكية، ستكون الوجهة مقابل ذلك: بنغلاديش، كاراتشي، السعودية...وبلدان أخرى..ستكون المنطقة قابلة للاستعمال الجيوبوليتيكي، هي اليوم بلد زراعي ولكنه ينطوي على احتياطي هائل من الغاز. وتعد ميانمار صديقة لإسرائيل ولا زالت هذه الأخير تعدّ موردا للسلاح حتى حينما تم فرض حضر على بيع السلاح لها.  اليوم الصورة اكتملت، والعنف والتطرف له صور ونصيب من سائر الثقافات والأديان وغير الأديان: عنف الإنسان ضدّ الإنسان الذي خفّف منه واقع توازن رعب الإنسان لكنه يعود بين الفينة والأخرى كلما اختل توازن الرعب وخفّ وازع العقد الاجتماعي. العنف الوحشي من متطرفي راخين البوذية إلى كو كلوكس كلان المتمسّحة إلى هاغانا الصهيونية إلى داعش المتأسلمة الخ. ولكل حكاية تاريخ مع السياسة ومشاريع الاقتصاد السياسي. إنّ نمط العنف الذي يمارس في بورما ضدّ الأقلية المسلمة يذكّر بما تقوم به داعش أو ربما أكثر لأن داعش تقبل بفكرة الذّمّي لكن في بورما القتل على الهوية ومن دون شروط. وجب التذكير بأنّ العنف في بورما ليس خيالا بل هو واقع، والمجموعة المتطرفة من البوذية لا تقلّ عن غيرها. إنّ حالة التوحّش عارمة، لكن أيضا يجب التحقيق والنزاهة في نقل الحقائق، لأنّ التهييج الذي يسبق العاصفة الجيوبوليتيكية عادة ما يكون الغرض منه مزيدا من النكبات. بالنسبة للمحلل السياسي وجب الوقوف عند الكثير من الصور التي يروجها الإعلام وبعضها عند التحقيق يتعلّق مثلا بمجموعة حرقت في شاحنة نقل الوقود بالكونغو، أو تلك التي تتعلق بضحايا الإعصار الذي ضرب بورما في ماي 2008، أو صور حرق البوذيين لضحايا الزلزال الذي ضرب التبت عام 2010، أو حادثة حرق بعض المتطرفين البوذيين في تايلاند لأطفال ولدوا توّا وهو حالة تكفير عن اللعنات كما في معتقداتهم نظرا لأنهم ولدوا سفاحا...هناك صور كثيرة تروج اليوم مثلما شهدنا صورا كثيرة وبعضها مفتعل لمزيد من تعقيد المشهد. نعم قضية بورما تنحل بالسياسة والقانون وتحريك الملفات والمبادرات.. نعم توجد الكثير من حالات التعسف والجرائم التي يقوم بها المتوحشون الراخين ضدّ الوهينغا، لكن  إذا لم تنحلّ بالسياسة والقانون وأعتقد من خلال مبادرات تقحم الهند والصين في هذا الحلّ، فإنّ الحلّ الذي سيزيد الأمور تعقيدا هو اللجوء إلى خيار افغانستان وطالبان والشيشان وبوكو حرام، على الرغم من أنّ داعش والقاعدة لم يظهروا هناك حيث الجرائم في بورما "شطارتهم" في إدارة التّوحّش. السؤال الذي يهمّنا هنا طرحه وهو مستبعد في المقاربات التبسيطية: ماذا يُراد ببورما وأي دور ترسمه الإمبريالية للروهينغا، وهل نحن قادمون على جيل من الحروب في خاصرة المجال الأوراسي يستدعي تحيين أشكال من الصراع بين الثقافت باعتبار أنّنا أمام مجال يعد بالطاقة وتدفق الراسميل وهو ما يتطلّب إخراج كل أثقال التّاريخ المأساوي للمنطقة وتناقضاتها وأوجاعها، حيث الصين واليابان وكوريا والهند..وجب على دول البريكس لا سيما الصين والهند وإيران احتواء الأزمة لأنها تدخل في صلب المعركة القادمة في الشّرق الأقصى، ولذا نلاحظ صمت بل تفهّم إسرائيل والرجعية لما يجري هناك، لإنهما يقومان بوظيفة عراّب الأزمة من الشرق الأوسط والأدنى إلى الشرق الأقصى لتكتمل دائرة الشّرق الشّقي ولتطويق دول البريكس شرق أوسطيا وشرق أقصئيا، والأداة والضحية هما الأقلّيات المسلمة في تخوم آسيا القصيّة. الهاغانا الصهيونية التي تمدّ عسكريا ميانمار بالسلاح والهاغانا الوهّابية التي تصدّر التّطرف والعنف إلى مسلمي آسيا الذين عاشوا شوافع وأحنافا صوفية، كلاهما سيكون له دور باعتبار أنّ الدخول إلى المجال الأوراسي بالنسبة للدّول-الإرهابية هو خلق حالة من الشرود والفوضى الجيوبوليتيكية، هذا العنف القاسي الذي يلازمه عمل إعلامي شرس وتحريضي هو واقع يحمل آثار المشروع الإمبريالي الذي رأينا له أمثلة كثيرة ما فتئت تخدعنا رغم وقوعها في التكرار..
ادريس هاني:5/9/2017