بقلم: اليكس فيشمان
بدأوا في وزارة الدفاع الامريكية هذا الاسبوع تحقيقا محرجا في أنه من سرب في واشنطن الى شبكات التلفاز الامريكية معلومة سرية سلمتها دولة صديقة وتشير الى ان اسرائيل هاجمت في نهاية الاسبوع الماضي في دمشق شحنة الصواريخ الايرانية المرسلة الى حزب الله. إن الحرج في البنتاغون مضاعف. فلم يُعرض تسريب النبأ مصالح دولة صديقة ويُفسد علاقات الثقة بين اسرائيل والولايات المتحدة فقط بل إنه كان في اسرائيل في تلك الايام حقا نائب وزير الدفاع الامريكي لشؤون السياسة، جيمس ميلر. وكانت تلك زيارة عمل عادية هي جزء من الحوار الاستراتيجي بين جهازي الدفاع. ومن المنطق أن نفترض بالطبع ان الأحداث في سوريا كانت هي الموضوع الساخن في تلك المباحثات. وفي حين كان الطرفان يتبادلان الآراء في سرية، باع شخص ما من تلك المكاتب في واشنطن التي يخدم فيها ميلر اسرائيل بثمن بخس واسوأ من ذلك أنه يُعرضها للخطر.
في نهاية الاسبوع الاخير بلغت علاقات اسرائيل بسوريا الى نقطة غليان وهو ما أوجب على اسرائيل سلسلة خطوات مثل الغاء عمليات ومضاءلة تدريبات عسكرية من اجل تبريد الحدود. ومن الواضح تماما أن هذا التسريب لم يسبب لاسرائيل ضررا سياسيا فقط بل ضررا عملياتيا ايضا.
يُصر الامريكيون على فرض ان الحديث عن واقعة مُفردة. فهي تسريب عرضي ونقطي بسبب خطأ في التقدير من موظف ما. وتغطي اسرائيل في مقابلة ذلك سحابة شك تقول إن ذلك ليس خطأ بل سياسة؛ وإن الادارة الامريكية التي تتعرض لهجمات داخلية لعدم فعلها في مواجهة ما يحدث في سوريا، تعرض اسرائيل بهذه التسريبات على أنها ‘ذراعها الطويلة’: من قال إننا لا نفعل شيئا؟ ها هم أولاء حلفاؤنا يفعلون، وليفهم العاقل. والى ذلك، حضرت قيادة الادارة العليا من الرئيس فنازلا بعد الهجوم في سوريا فورا أمام السماعات واحتضنت اسرائيل وأعلنت حقها في الدفاع عن نفسها.
ويبدو على العموم أن عند وزير الدفاع الجديد تشاك هيغل مشكلة ما مع مرؤوسيه في وزارة الدفاع الامريكية. فقد ورط نفسه قبل النبأ المسرب الأخير بقوله انه ليس للولايات المتحدة معلومة محققة عن استعمال سلاح كيميائي في سوريا، وعُرض في ضوء محرج. وقد عرف ناسه خصوصا باستعمال هذا السلاح لكنهم نسوا أن يُنبئوه عن ذلك وأخضعوا الثقة به لامتحان. إن تسريب المعلومة الامريكي الحقير، الذي عرّض اسرائيل لخطر مواجهة عسكرية مع جاراتها أبرز موضوعا أكثر خطرا وهو هل توجد أصلا سياسة اسرائيلية في مواجهة ما يجري في سوريا؟ واذا كانت توجد فمن الذي يشرف عليها؟. هبطت في مطار دمشق في مطلع الشهر طائرة نقل ايرانية وفيها بضع عشرات من الصواريخ الايرانية الجديدة نسبيا من طراز ‘فاتح 110 إس′. أما الطراز الاول من ‘الفاتح 110′ فمعروف منذ مطلع الألفية الثالثة. وقد وصل الطراز المتقدم منها ‘إم600′ الى حزب الله. عرض الايرانيون في آب 2010 الطراز المتقدم من ‘فاتح 110 إس′ وهو صاروخ دقيق مع انحراف يبلغ بضع عشرات الأمتار عن الهدف. ومعنى ذلك أن صاروخا كهذا يوجه الى قاعدة عسكرية كبيرة أو الى منشأة شركة كهرباء أو الى مكان الكرياه وما أشبه، يصيب الهدف.
إن هذا السلاح بالنسبة لاسرائيل اذا وصل الى حزب الله هو ‘سلاح سيئ’. هل يُغير توازن الردع بين اسرائيل وحزب الله؟ وهل هذا الصاروخ الموجه بواسطة الـ ‘جي.بي.إس′ لا يمكن وقفه؟ أكانت اسرائيل ستهاجم سوريا قبل سنتين لو هبط هذا السلاح على ارضها؟ وهل تُسوغ بضع عشرات قليلة من هذه الصواريخ مشاركة اسرائيلية في المواجهة العسكرية في سوريا؟.
بدأت تجتمع في صيف 2012 معلومات في الغرب عن ان ايران تُعد هذه الصواريخ للتصدير ومن جملة المصدر اليهم حزب الله، وحدث ذلك في الاسبوع الماضي. على حسب الأنباء الاجنبية المنشورة هوجم مخزن قرب مطار دمشق ومواقع اخرى في المدينة. أي أن جزءا من الشحنة المرسلة نُقل للخزن وكان جزء منها يُعد لارساله الى لبنان، ويوجد هنا انجاز استخباري غير عادي للكشف عن نوايا تهريب وسائل قتالية في الوقت المناسب.
هناك في اسرائيل من يقولون إنه فُتحت أمامنا ‘نافذة فرص’ واسعة في سوريا تُمكّن من محاولة اصابة منظومات سلاح خطيرة قد يستعملها كل نظام معادٍ في المستقبل في سوريا لتقع في أيدي منظمة ارهابية مثل حزب الله أو القاعدة. ويزعم من يؤيدون نظرية نافذة الفرص أن لاسرائيل قدرة عسكرية على تدمير هذه المخازن مع دفع ثمن محتمل بازاء الضعف السوري، ومهما يكن ذلك أبكر فهو أفضل. ولم يتحول هذا التصور قط الى سياسة لأنه لا يخدم المصلحة الاسرائيلية في عدم التدخل في اسقاط الاسد. إن كل العمليات التي نُفذت الى الآن لمنع تسرب سلاح اشكالي في سوريا أو في اماكن اخرى كانت سرية. لكن عملية واسعة النطاق على مخازن سلاح في سوريا لا يمكن أن تكون سرية. وإن عملية كهذه قد تُشعل الجبهة الشمالية خلافا للمصلحة الاسرائيلية وتسقط نظام الاسد في وقت غير مريح لاسرائيل.
لكن كل ما حدث في نهاية الاسبوع الماضي كان كل شيء سوى عملية سرية. ويبدو أن إغراء اصابة مخزن ‘سلاح سيئ’ فيه عشرات الصواريخ الدقيقة كان كبيرا جدا؛ هذا الى ان تقدير الوضع رأى ان الرئيس السوري لن يبادر الى أي مواجهة عسكرية مع اسرائيل فمصلحة الاسد العليا هي الحفاظ على حكمه. وجر اسرائيل الى مواجهة عسكرية سيُعجل بنهاية النظام العلوي.
رسم كاريكاتوري مع استراتيجية
تفوق اسرائيل بصورة واضحة كثيرا من الدول الاخرى في معرفتها للنظام السوري. ولهذا حينما يُبلغ قادة الاستخبارات الاسرائيلية المستوى السياسي عن اجراءات الاسد وما يفكر فيه، في هذه المجالات وغيرها، يُظهرون ثقة كبيرة فهم يعرفون ما يتحدثون عنه. وتكاد هذه الثقة تبلغ احيانا حد الصلف. فعلى سبيل المثال وُجد وزير دفاع تحدث عن سقوط الاسد في غضون اسابيع، ولم يكن الوحيد، لكن الاسد ما زال موجودا كما تعلمون. يحاولون في اسرائيل ان يصوروا الاسد على أنه رسم كاريكاتوري لرئيس مقطوع عن الواقع. لكن يوجد عناصر لا يقلون اختصاصا يزعمون أنه قد يكون رسما كاريكاتوريا لكنه رسم كاريكاتوري مع استراتيجية، وهم يصورون صورة شخص عارف بالوضع لكنه يؤمن بأنه سيكون قادرا على الصمود سنة أو سنتين أخريين في مناطق حرجة للنظام وان يعود بعد ذلك ليُثبت سلطته في أجزاء واسعة من سوريا.
والرئيس السوري بخلاف الخبراء الاسرائيليين الذين يفحصون عنه يرفض تأبين نفسه ويريد كسب وقت.
يمنح الامريكيون ايضا في فترة وزير الخارجية كيري ووزير الدفاع هيغل، يمنحون الاسد نوعا من الأمل. فالخوف من فوضى في سوريا تؤثر في الاردن وفي تركيا يثير في الولايات المتحدة رعبا ويحثها على تغيير مهم جدا في سياستها. إن كيري الموجود في هذه الايام في موسكو يمنح الروس تفويضا لبدء حوار مع جميع الفصائل في سوريا ويشمل هذا الاسد. واذا كان الامريكيون الى اليوم قالوا ‘لا’ للاسد فهم اليوم ينضمون الى الروس ويتحدثون عن حوار يشمل الاسد ويشمل الايرانيين. وحتى لو كان الامريكيون يريدون المساعدة على اسقاط الاسد فهم يدركون أنه لا يوجد من يساعدونه. فانه ما بقي الحديث عن قيادات المتمردين السياسية فانه يمكن اجراء حوار مستقل مع القوميين السوريين والاخوان المسلمين السوريين ومن أشبههم. لكن الفروق تتلاشى في الميدان عند المستويات المقاتلة. وهكذا فان وسائل قتالية تُنقل الى المتمردين قد تتسرب الى القاعدة والى السلفيين.
إن كل هذا الخليط السياسي والامني والتكتيكي والاستراتيجي يُصب على مائدة المجلس الوزاري المصغر في اسرائيل. في 2006، قُبيل الضربة الابتدائية الجوية في حرب لبنان الثانية، عرض رئيس هيئة الاركان آنذاك دان حلوتس على المجلس الوزاري المصغر خططه للمصادقة عليها. ويتذكر وزراء كبار جدا أنهم أجازوا آنذاك ضربة ابتدائية شديدة جدا توجه على منظومة الصواريخ الثقيلة لحزب الله. وكان تقدير الجيش للوضع ان حزب الله لن يرد أو انه سيرد بأدنى قدر.
واذا ردوا مع ذلك كله؟ سأل عدد من الوزراء. ‘سنوجه ضربة أشد وسيكفون’، أجاب الجيش. ‘واذا خرج الامر مع كل ذلك عن السيطرة؟’ سأل وزير كبير جاعلا الامر صعبا وهو شمعون بيرس. وكان جواب الجيش: ‘حينما يحدث ذلك سنتخذ قرارات’.
لا يوجد ما يدعونا الى افتراض ان المجلس الوزاري المصغر اليوم أكثر خبرة واختصاصا من ‘حلقة السبعة’ التي أدارت الحرب في 2006. كان يجلس في المجلس الوزاري المصغر آنذاك آفي ديختر وشاؤول موفاز وشمعون بيرس وكلهم خبير جدا بالمجال الأمني. أما اليوم فان الشخص الامني الخبير الوحيد تقريبا في المجلس الوزاري المصغر، وهو ‘البالغ المسؤول’، فهو وزير الدفاع موشيه يعلون. صحيح أن لرئيس الوزراء نتنياهو ايضا تجربة كبيرة. لكن يتبين أن مقدار حماسته لعمليات عسكرية أعلى حتى من حماسة الجيش. ولا يمكن ان ندعوه عاملا ضابطا للنفس. بالعكس إن نتنياهو هو عامل مستحث. وعلى ذلك يجب على يعلون ان يواجه الجيش باعتباره عنصرا مختصا معادلا يرى الامور برؤية سياسية واسعة، وفي مواجهة رئيس الوزراء باعتباره عامل ضبط للنفس. وتقف الى جانبه الوزيرة تسيبي لفني باعتبارها ذات خبرة سياسية. لكن لا يوجد في المجلس الوزاري المصغر في المجال العسكري والعملياتي من يسأل اسئلة أو يعرض معضلات أو يشك سواه. ويجب ان تُسأل اسئلة هناك لا على أساس حدس وزراء فضوليين بل على أساس علم ومعرفة عميقة بأكثر المواد سرية.
ونقول بعبارة اخرى ان التوازنات التي يفترض ان تكون بين المستوى السياسي، الذي يرى المصالح الاستراتيجية العامة لدولة اسرائيل، وبين المستوى العسكري، غير موجودة ببساطة. والى أن يدخل يئير لبيد ونفتالي بينيت وجلعاد أردان بل اسحق اهارونوفيتش الذي كان نائبا للقائد العام للشرطة، في أحذية اشخاص مثل دان مريدور أو بني بيغن أو افيغدور ليبرمان أو حتى إيلي يشاي، وكلهم أصحاب خبرة دامت سنين طويلة وشراكة في اتخاذ قرارات في أضيق الحلقات، سيظل هذا المجلس الوزاري ختما مطاطيا. إن الوزراء يأتون غير مستعدين وليسوا مذنبين في ذلك. وهم يحظون باستكمالات وجولات لكنهم يظلون بعيدين عن المعلومات المطلوبة لمواجهة قضايا اختصاصية حساسية. هل يستطيع هذا المجلس الوزاري المصغر أن يقف أمام رسوم بيانية ومعروضات للجيش وفي مواجهة أسرار وقدرات يعرضها الجيش؟ إن الوزراء يجلسون هناك فاغري الأفواه عندما يُكشف أمامهم عن القدرات التقنية وعن عمق المعلومات الاستخبارية. وكل شيء جديد بالنسبة لأكثرهم وكل شيء يثير الانفعال وكل شيء يملؤهم فخرا. لكنهم لم يُرسلوا الى المجلس الوزاري المصغر للانفعال بل للحفاظ على كل مصالح دولة اسرائيل.
من روسيا بحُب
إن ميزة السياسة الاسرائيلية الرئيسية في سوريا هي السرية، فما لم يُدخلوا أصابعهم في عيني الاسد تستطيع اسرائيل الاستمرار في العمل في سوريا في مواجهة وسائل قتالية ايرانية تُنقل الى حزب الله. هل الهجوم المجلجل على صواريخ في مخازن في وسط دمشق مرة بعد اخرى هو بمثابة إدخال أصابع في العينين؟ أهذه هي الحالة التي تستحق أن تُضيع فيها اسرائيل ‘المدافع الثقيلة’ في مواجهة الاسد؟ ستكون حساسية الاسد في الغد أكبر كثيرا من الحساسية التي كانت عنده قُبيل الهجوم. فهل ستكون اسرائيل حرة والحال كذلك في العمل على أهداف أهم لأمن اسرائيل مثل الصواريخ المضادة للطائرات ‘إس.إي300′ التي يبلغ مداها 200كم والتي ينوي الروس ان يبيعوها للاسد الآن؟.
بلع السوريون الهجوم في الليلة بين الخميس والجمعة الماضية واتهموا المتمردين. لكن لم يكن التسريب الامريكي وحده هو الذي وجه الاصبع نحو اسرائيل. فقد كان لمخططي الهجوم كما يبدو عوامل اضطرارية موضوعية ولم تترك الخطة العملياتية للسوريين خيارا سوى اتهام اسرائيل. وكان يجب على المجلس الوزاري المصغر هنا ايضا ان يسأل الاسئلة الصحيحة التي تُحدث توازنا بين الحاجة العسكرية والضرر السياسي.
إن مصلحة اسرائيل الواضحة الاولى هي ألا تصبح سوريا قاعدة ارهاب. والمصلحة الثانية هي ألا تتسرب وسائل قتالية نوعية أو سلاح غير تقليدي الى جهات معادية. والمصلحة الثالثة في أهميتها بحسب تصور الحكومة العام هي الاضرار بمحور الشر أي بمصالح ايران في المنطقة. فكيف يندمج الهجوم على صواريخ قليلة في قلب دمشق في هذه المصالح الاسرائيلية؟.
يستطيع يعلون وهو المحور المركزي في المجلس الوزاري المصغر في قضايا الأمن ان يشتاق فقط الى دان مريدور. قد لا يشتاق للشخص لكن لما يُمثله. فقد كان الثمانية في حكومة نتنياهو السابقة أفضل أداة مختصة سياسية كانت تملكها حكومة اسرائيل منذ سنين. وكان الاعضاء الثمانية يجلسون مرتين كل اسبوع الى اهود باراك ونتنياهو ساعات طويلة احيانا ويتباحثون في أكثر الشؤون حساسية في دولة اسرائيل. واطلع عدد منهم على مادة استخبارية خام لا يعرضها الموساد و’الشباك’ وشعبة الاستخبارات العسكرية على أي وزير من الوزراء الذين يجلسون اليوم في المجلس الوزاري المصغر. لكن بني بيغن كان إبن بيت في الموساد وكان مريدور وزير الشؤون الاستخبارية ورئيس لجنة الخارجية والامن في ماضيه. وقد عرفا بالضبط كيف تصوغ شعبة الاستخبارات العسكرية تقدير هل يرد الاسد أم لا يرد، وكانا يستطيعان الاعتراض عليه. وقد ضايق يعلون ايضا إذ كان عضوا في المجلس الوزاري المصغر وزير الدفاع باراك مضايقة شديدة بما لا يحصى من الاسئلة الاختصاصية. وفي مرة واحدة فقط حينما عطلوا الثُمانية وقعت كارثة القافلة البحرية التركية. يستطيع يعلون ونتنياهو اليوم أن يشتاقا فقط الى الثمانية ونستطيع نحن أن ندعو الله ان يتعلم المجلس الوزاري المصغر سريعا.
يديعوت أحرنوت