القدر يحتّم على نتنياهو و«حماس» التعايش بصعوبة من جديد.
من غير المرجح أن تؤدي عودة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى السلطة إلى تغيير حسابات الوضع الراهن لإسرائيل أو لـ «حماس» بشأن غزة، على الرغم أنه من الضروري أن تستمر واشنطن بمراقبة الأحداث المحتملة التي لا يمكن التنبؤ بها مثل تداعيات التوترات في جبل الهيكل/الحرم القدسي والتدخل الإيراني.س
ديفيد بولوك زميل أقدم في معهد واشنطن يركز على الحراك السياسي في بلدان الشرق الأوسط.س
توشك محادثات تشكيل الحكومة الإسرائيلية على التوصل إلى نتيجة، ويبدو أن بنيامين نتنياهو متأكد من استعادة منصبه كرئيس للوزراء بعد أن أصبحت أغلبية من 64 عضواً في الكنيست في صفه رسمياً. وقد بدأ الخبراء بالفعل بالإعلان عن توقعاتهم بشأن كيفية تأثير استيلاء اليمين على السلطة على علاقات القدس مع الأمريكيين والعرب والروس والأتراك وغيرهم.
ومع ذلك، لم يتطرق أحداً إلى مسألة أساسية واحدة وهي مستقبل علاقات إسرائيل مع «حماس» ومثيلتها المفضلة «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» في غزة، حيث تم خوض ما لا يقل عن أربع حروب صغيرة منذ كانون الأول/ديسمبر 2008. وبدلاً من ذلك، ركز المراقبون بشكل أكبر على السيناريوهات المحتملة في الضفة الغربية، على غرار التوترات المتزايدة حول المستوطنين الإسرائيليين، والانهيار (غير المحتمل) لـ "السلطة الفلسطينية"، وموجات متفرقة من الهجمات التي تنفذها كما يُفترض "عناصر فردية" من دون تراجع وتيرة الهجمات الإرهابية المميتة. ومع ذلك، في حين تُعتبر جميع هذه المخاوف مهمة، إلّا أنه لا يمكن إنكار واقع أنه على مدى عقدين من الزمن، تشهد الجبهة الجنوبية مع غزة أعنف المواجهات المسلحة بين إسرائيل والفلطسينيين.
ولا شك أن هذا الاستنتاج التحليلي يُعزى بدرجة كبيرة إلى الاحتمال الضئيل بأن يشهد الجمود المطوّل بين الطرفين المتنازعين منذ فترة طويلة، والذي تتخلله موجات قتال عنيفة بين الحين والآخر، تغييراً كبيراً. وبغض النظر عن هوية وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد، لن ترغب الحكومة على الأرجح في استئناف مناوشة عسكرية أخرى واسعة النطاق بل غير حاسمة ضد «حماس»، ناهيك عن المبادرة بالقيام بها. وفي المقابل، من المرجح أن يواصل الجيش الإسرائيلي المتمرس و "الشاباك" (جهاز الأمن الداخلي) رسم الجزء الأكبر من سياسة إسرائيل تجاه غزة، علماً بأنهما لطالما فضلا "الحفاظ على الهدوء" في المنطقة قدر الإمكان. وإذا لم تحدث صدمات غير متوقعة، من المحتمل أن يعني ذلك أن إسرائيل ستحافظ على شريان حياتها الاقتصادي إلى غزة، بل وتوسعه تدريجياً.
ويشمل شريان الحياة هذا حالياً ما يلي: تصاريح العمل اليومي والدخول إلى إسرائيل لأكثر من 17000 من سكان غزة؛ تصريح يومي لمئات من شاحنات البضائع الثقيلة التي تعبر الحدود في كلا الاتجاهين؛ حقوق الصيد البحري الخاضعة للإشراف؛ الإذن بالتوزيع المنتظم للأموال النقدية والبضائع من قبل "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين" ("الأونروا")، البائعين المصريين، وغيرهم من المانحين الدوليين والخليجيين؛ والتزويد المستمر بالمياه والكهرباء. وطالما امتنعت «حماس» إلى حد كبير عن شن هجمات صاروخية ضد إسرائيل، ومن المتوقع أن تستمر هذه الحوافز الملموسة للغاية مقابل استمرار الهدوء في ظل حكومة جديدة بزعامة نتنياهو.
ومن جهتها، أظهرت «حماس» نيتها الواضحة إلى التركيز على الداخل وتحديداً على حماية ملاذها ومقرها في غزة بدلاً من تركيزها على الخارج من خلال مواجهة إسرائيل بنشاط - على الأقل في الوقت الحالي، وعلى الأقل على الجبهة الجنوبية (انظر أدناه). وفي تناقض واضح مع مسؤولي "السلطة الفلسطينية" في الضفة الغربية، تجنّب قادة الحركة عموماً التنديدات العلنية الشديدة اللهجة بعودة نتنياهو. أما على الأرض، فقد اكتفت الحركة بشن هجوم صاروخي واحد صغير من غزة منذ فوز نتنياهو في الانتخابات في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر. وردّت إسرائيل، على حق، بشنها بضع ضربات جوية روتينية ضد أهداف معزولة. وبعد فترة وجيزة، زعمت بعض التقارير (التي تم التشكيك فيها من قبل مصادر أخرى) أن «حماس» اعتقلت مجموعة من عناصر «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» أو مسلحين "مارقين" آخرين الذين ادعت أنهم كانوا وراء هذا الهجوم الذي خرق الهدوء السائد.
وفي علامة أخرى على هذه المقاربة "المعتدلة" نسبياً، سمحت «حماس» مؤخراً لآلاف من الأنصار المحليين لحركة «فتح» بالاحتفال علناً بذكرى وفاة ياسر عرفات. وكانت هذه هي المرة الأولى منذ سنوات عديدة التي يُسمح فيها بمثل هذا التجمع في غزة.
ولعل الأهم من ذلك كله، أن الحركة أقرت علناً بأنها تسعى إلى نقل المعركة ضد إسرائيل إلى الضفة الغربية في الوقت الحالي بدلاً من أرضها في غزة. وفي مقابلة تلفزيونية عشية الانتخابات الإسرائيلية، أدلى المسؤول البارز في «حماس» محمود الزهار بتصريحه الملفت قائلاً: "أنا أعارض شن الحروب المتكررة في غزة [ضد إسرائيل] ولكن لا بدّ من أن تشهد الضفة الغربية حروباً متكررة". وبرر بعدها موقفه هذا مستنداً إلى الشريعة: "هل تظنون أنه إذا سنحت لنا الفرصة لدعم إخواننا في الضفة الغربية، فلن نغتنمها؟ هل من مبرر في الشريعة [لعدم دعمهم]؟... علينا دعمهم بالكلمات والمال والأسلحة. يمكننا دعمهم من خلال مساعدتهم على تحديد رؤيتهم بشكل أفضل، ومن خلال الصلاة لهم من بعيد". وعلى الرغم من جميع الاختلافات التكتيكية المبلغ عنها بين مختلف مسؤولي «حماس» والفصائل، لم يُسمع أي شيء يتعارض مع هذا الرأي مؤخراً، بمن فيهم قائد الحركة يحيى السنوار.
ماذا تقول استطلاعات الرأي؟
يبقى الرأي العام عاملاً مهمَلاً في معظم الأحيان في الحسابات الحذرة من كلا الجانبين. ففي إسرائيل، التي ربما تنظم أكبر عدد من استطلاعات الرأي للفرد الواحد في العالم، نادراً ما يسأل منظمو هذه الاستطلاعات عن غزة كما كان عليه الحال سابقاً، حتى أن الموضوع قلما يُطرح ضمن أجندة النقاشات العامة. ويبدو أن معظم المواطنين من مختلف جوانب الطيف السياسي يرضخون لاستمرار الوضع القائم "غير المستدام" الذي يُضرب به المثل، بما في ذلك إطلاق الصواريخ الفلسطينية بين الحين والآخر والردود العسكرية الإسرائيلية (المعروفة أيضاً باسم "جز العشب"). وتكمن الاستثناءات بشكل رئيسي في المجتمعات المتاخمة لقطاع غزة، والتي تقع عموماً خارج قاعدة اليمين المتطرف الديني الصاعد مؤخراً في إسرائيل. وتميل القاعدة الانتخابية في هذه المناطق والأحزاب التي تمثلها إلى حدّ كبير، نحو القدس والضفة الغربية شرقاً، وليس نحو غزة جنوباً.
وعلى الجانب الآخر من الحدود، تولي «حماس» اهتماماً وثيقاً بنتائج استطلاعات الرأي العام حول هذه القضايا (بما في ذلك استطلاعات "معهد واشنطن" التي نظمها كاتب هذا المقال). وعلى الرغم من أن الحكومة الفلسطينية ليست بالتأكيد حكومة ديمقراطية، إلا أن قادة الحركة يدركون جيداً أن شعبيتهم في الضفة الغربية أكبر بكثير مما هي في أوساط أتباعهم في غزة، لذلك يحرصون على عدم استعداء السكان المحليين بصورة مفرطة.
وفيما يخص الرأي العام السائد في غزة حول إسرائيل، تبدو توجهات الرأي العام في القطاع واضحة للغاية. فقد أشار الاستطلاع الموثوق الأخير الذي أجري في حزيران/يونيو من هذا العام، إلى أن ثلثي السكان يريدون من «حماس» احترام وقف إطلاق النار. كما أن نسبة مماثلة ترغب في تحسين العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، في زيادة بنسبة 13 نقطة منذ الاستطلاع السابق الذي اُجري قبل وباء فيروس كورونا في شباط/فبراير 2020. وتوافق نسبة أكبر بقليل من النصف (53 في المائة) على التصريح التالي المثير للجدل عمداً (على الرغم من معرفتها المؤكدة بأنها ليست وجهة النظر السياسية الصحيحة): "على «حماس» التوقف عن الدعوة إلى تدمير إسرائيل، وقبول حل الدولتين الدائم وفق حدود عام 1967".
حدثان لا يمكن التنبؤ بهما: جبل الهيكل وإيران
على الرغم من كل هذه القيود، يمكن لحدثين متناقضين لا يمكن التنبؤ بهما زعزعة هذا التوازن الهش. ويتمثل الحدث الأول في احتمال حدوث اضطرابات كبيرة في جبل الهيكل/الحرم الشريف في القدس، مما قد يمنح «حماس» ذريعة قوية لتتظاهر بأنها "المدافع" عن الموقع المقدس من خلال إطلاق وابل من الصواريخ ضد أهداف مدنية إسرائيلية. وسيزداد هذا الخطر مجدداً في الربيع المقبل مع اقتراب عيدين مهمين لدى المسلمين واليهود.
ومع ذلك، تبدو حتى الشخصيات البارزة ضمن اليمين الديني المتطرف الذي اكتسب نفوذاً مؤخراً في إسرائيل، سواء أكان بتسلئيل سموتريتش أو إيتمار بن غفير أو غيرهما، أكثر إدراكاً لهذا الخطر الداهم. فعلى سبيل المثال، صرح سموتريتش، رئيس حزب "الصهوينية الدينية"، مؤخراً أمام جمهور محلي بأنه "نضج"، في حين وجه زعيم حزب "عوتسما يهوديت" (أو "العظمة اليهودية")، بن غفير، تركيزه نحو الخليل وغيرها من المستوطنات/البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، ومراعاة يوم السبت، وقضايا الجنسين، بعد أن وضع جبل الهيكل نصب عينيه لفترة طويلة. وعلى أي حال، سيستمتع نتنياهو على الأرجح بكبح جماح مثل هؤلاء المشاغبين عندما يتعلق الأمر بملف القدس الساخن والمحتدم للغاية.
أما الحدث الثاني الذي لا يمكن التنبؤ به، فيرتبط بمكان أبعد بكثير في إيران. فقد تميل طهران إلى صرف الانتباه عن الاحتجاجات الشعبية المستمرة حالياً ضد النظام من خلال إلقاء اللوم على إسرائيل حول الأزمة، وقد توقظ عملاءها في «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» و «حماس» في غزة. ومع ذلك، وبشكل عام، من المحتمل أن تؤدي شدة هذه الاضطرابات الداخلية إلى إثناء النظام عن أي تصعيد عسكري كبير ضد إسرائيل في الوقت الحالي. وبدلاً من ذلك، قد تستمر إيران في توجيه ضرباتها نحو أهداف أصغر حجماً وأقل أهمية وأكثر بُعداً، مثل محاولتها الفاشلة لاغتيال مواطن إسرائيلي مؤخراً في جورجيا أو ضربتها الطفيفة بطائرة مسيرة متفجرة على ناقلة نفط مملوكة لإسرائيل في "خليج عُمان".
ومن المثير للاهتمام أن «حماس» وسكان غزة يتفقون على مايبدو على أنه يجدر بإيران عدم المبالغة في استفزاز إسرائيل. وفي هذا الإطار، بارك علناً مسؤول رفيع في «حماس» أثناء زيارته لبنان في وقت سابق من هذا الشهر الاتفاق البحري الجديد الذي وقعته بيروت مؤخراً مع إسرائيل، ربما على أمل التوصل يوماً ما إلى اتفاق مماثل بشأن الغاز الطبيعي البحري. وأظهر استطلاع حزيران/يونيو المذكور أعلاه، أن أغلبية ضئيلة (55 في المائة) من سكان غزة يوافقون على التصريح الجريء التالي: "في كل مرة تتدخل فيها إيران في المنطقة، تؤذي العرب المحليين ولا تساعد الفلسطينيين".
وعلى المدى الطويل، فإن الحقيقة المأساوية هي أنه لا أحد لديه حل مرض للعديد من مشاكل غزة. ولكن على المدى القصير، فإن أي تهويل بشأن كيفية تأثير انتخاب نتنياهو على هذه القضايا يكاد يكون بالتأكيد في غير محله. بعبارة أخرى، أمام الولايات المتحدة والأطراف المعنية الأخرى مجال أكبر قليلاً لمعالجة القضايا الملحة على الجبهات الأخرى.
Copyright © 2022 The Washington Institute for Near East Policy