هذه مقالة كتبتها قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة بأيام، أي من نحو ستة أشهر، وكان اللبنانيون منقسمين بين مسرور وحزين، وللأمانة لم أغيّر فيها حرفًا واحدًا..أتمنى من الأصدقاء قراءتها كلّها. ..
د.طارق عبود/باحث في الشؤون السياسية.
"عن الاستحقاق الرئاسي والشعب العنيد"
دائمًا ما تشغل العاطفة مساحة مؤثرة في وجدان المواطن اللبناني وهو يقارب القضايا السياسية والوطنية، متكئًا في اصطفافه على هذه الضفة أو تلك، على تورّم نرجسي جمعي، وشوفينية متجذرة، تُضاف اليها ذاكرة تاريخية مشغولة بالاضطراب والتشوّه، معتمدًا من اجل تحقيق الغلبة على خصمه - المتغيّر دومًا- على محاميل مفهومية وعقدية مدعومة بعوامل عاطفية وقبلية وكيدية، تحشد لها وتغذيها آلةُ شحن إعلامية وتعبوية تعمل على تجديد المعطيات لإبقائه متحفزًا ومطيعًا.
يبدو من السياق الحالي للتطورات السياسية المحلية، أنّ الانتخابات الرئاسية اللبنانية في طريقها الى النهاية المرجوة التي ستأتي بالجنرال ميشال عون الى قصر بعبدا، وأنه سيحمل لقب"فخامة الرئيس" بعد نضالٍ مضنٍ ومكلف قارب العقود الثلاثة.
بعيدًا من التفسيرات والتأويلات والمعلومات، من أنّ انجاز الاستحقاق في هذه الجولة كان محليًا، ام كان للعاملين الإقليمي والدولي فيه دور ما من وراء الستارة، من خلال ضوءٍ أخضر للخروج من حالة الفراغ التي باتت تهدد الاستقرار الذي ما زال أولوية عند غير فريق اقليمي ودولي.
لنفترض أننا اليوم في الأول من تشرين الثاني 2016، وفخامة الجنرال ومستشاروه، وقياديو التيار يملأون القصر الرئاسي في بعبدا، يرتبون أمورهم ومكاتبهم وربطات أعناقهم. فالسؤال المطروح بإلحاح: ما الذي تحقق من إنجاز قد يعوّل عليه اللبنانيون، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والطائفية من الاتفاق الجديد الذي وضع الخطوط العريضة لانطلاقة العهد، ولا سيما ما نُمِيَ عن تفاهمات ثنائية وغيرها؟
سنقارب هذا الوضع من منظور مصلحة المواطن اللبناني الحقيقية وليست الوهمية، او الوجدانية، بحيث يتحول النقاش الى المكاسب التي من الممكن تحقيقها عند طرفي هذا الشعب .
ليس خافيًا ولا سرًا، أنّ مجموعات كبيرة من اللبنانيين تنتابها اليوم مشاعر متضاربة، فقسم منهم يشعر بالنشوة والغبطة والنصر، ويكاد يطير فرحًا، وهو يعدّ الأيام والساعات لوصول العماد ميشال عون الى القصر الجمهوري. وقسم آخر يشعر بالخيبة والإحباط والحزن للسبب نفسه. وهذا ديدن اللبنانيين منذ عقود طويلة، نتيجة التعبئة والتمترس خلف قناعات وخيارات سياسية تربوا عليها، وأقنعوا انفسهم بها..
سأحاول ألا أكون متشائمًا، فأفسد نشوة الفرحين، وأزيد من غضب المحبطين والمقهورين.
لنفترض جدلًا، وعلى سبيل التفاؤل، أن الوضع الاقتصادي في العهد الجديد قد تعافى من علاته، من خلال خطة رائعة وسحرية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة العتيد، وتم تغيير بنية النظام الطائفي القائم على المحاصصة وتقاسم السلطة، الذي يشكّل السبب الرئيس في البلاء المتحكّم في هذا البلد، وتم سحب البساط من تحت الطبقة السياسية وبطانتها،كونها المستفيد الوحيد من الوضع القائم اليوم؟ وبناءً على هذا الافتراض، فإنّ أبناء قسمي الشعب سيتعلمون في أفضل الجامعات، وسينعمون بكهرباء متواصلة في الليل والنهار، وسُترفعُ النفاياتُ من الطرقات، وسيُحَارَبُ الفسادُ المتجذّر في مؤسسات الدولة، ولن يغرق اللبنانيون كما في كل عام في الشتوة الأولى، فيحيوا بكرامة، من دون هدر ماء وجوههم على عتبة هذا السياسي او ذاك؟ وتطول لائحة الأحلام...
السؤال الآخر: هل يجب على المحبطين من وصول ميشال عون أن يستمروا بالحزن، وأن يشعروا بالقهر، إذا ما تحققت هذه الأمنيات؟
وفي الجهة الأخرى، هل سيكون محبّو الجنرال ومناصروه وحلفاؤهم في غاية السعادة والسرور والغبطة إذا ما بقيت أمور البلاد والعباد على الحالة القائمة منذ نهاية الحرب الأهلية، واقتصر الأمر فقط على وصوله الى بعبدا؟
إن ما يحدث اليوم ونرى بعض تجلياته على المستوى السياسي، وتظهّر بعضه مواقع التواصل الاجتماعي، هو خير تعبير عن الجهل الذي يقيم في عقل اللبناني، ويسيطر عليه، ويبتعد به من مصلحته، باتجاه الثأر والتشفي من الآخر الذي يشترك معه في الكثير من الهموم والمعاناة، في هذه المساحة التي اصطلح على تسميتها وطنًا.
يمتهن اللبناني التذمر والتفجّع على أحواله، ويحوز على علامة متقدمة في جهله لتشخيص المصلحة.
بدورها، احترفت الطبقة السياسية بعد الطائف وقبله كيفية تجيير أي حدث قد يكون مبدلًا، لصالحها، بحيث
تؤدي الجماهير دورَ المضحي باستقرارها وهناءة عيشها ومستقبل أبنائها في سبيل عدم المس بالمكتسبات (الوهمية) للطائفة والمجموعة والقبيلة.. والزعيم.
فلنعد قليلًا الى الوراء، لعلنا نستطيع ان نرى المشهد بعيون موضوعية، بعيدًا من مشاعر الفرح او الحزن او الشماتة او الاحباط.
يشهد معظم اللبنانيين للرئيس الأسبق للجمهورية العماد اميل لحود بالنزاهة ونظافة الكف، وبالاندفاع نحو تغيير يخرج البلد من دوامة الفساد وتقاسم الحصص والسمسرة السياسية، حتى لو انه أخطأ في تفاصيل كثيرة، وصودف إن يأتي في عهده شخص يشهد القاصي والداني بوطنيته ونزاهته وعصاميته، هو الرئيس الدكتور سليم الحص رئيس حكومة اول العهد.
ولكن السؤال الذي يوّلد جوابًا مؤلمًا وصريحًا هو: ماذا كان باستطاعة هذين الرجلين فعله في ظل نظام سياسي كالنظام اللبناني؟ وهل يستطيع شخص العماد عون إصلاح ما افسده الدهر؟ وما هي صلاحياته وإمكاناته؟
هل سيتفق تيارا المستقبل والوطني الحر مثلًا على قانون انتخاب عصري يتمثّل فيه اللبنانيون بشكل عادل؟ وهل سيتغير السلوك السياسي للنظام اللبناني، بمجرد ان أتى ميشال عون وسعد الحريري الى السلطة؟
لقد حلم اللبنانيون كثيرًا في مراحل سابقة، وكانت الظروف الإقليمية والدولية لا تقاس بحاضرنا المأزوم، ولم يجنِ اللبناني العنيد (بالإذن من زياد الرحباني) سوى الخيبات والبطالة والضرائب المباشرة، وهو يراقب متحسرًا انتفاخ ثروات الطبقة السياسية وبطانتهم، وأصحاب المصارف وشركات الاحتكار.. وليس معلومًا اذا كان باستطاعته ان يحلم اليوم..
يقول أحد قياديي التيار الوطني عن التفاهم مع تيار المستقبل، "إنّ أهم ما تفاهمنا عليه هو أننا نريد أن نبني دولة." حسنًا. لعل ما حصل في مجلس النواب في أثناء طرح مشروع سلسلة الرتب والرواتب، وكيف تمّت إحالته الى مقبرة اللجان، مؤشر الى كيفية بناء هذه الدولة.
في وطن يرقد فوق تيهٍ تاريخي وبنيوي، من المؤكّد أنّ اي رئيس مهما حمل من في صفات، ومن وزن، ومن تمثيل، ومع وجود هذا النظام الطائفي، وبقائه جاثمًا على صدور اللبنانيين، وقانون الانتخاب مفصّلًا على قياس الطبقة السياسية؛ لن يتغير شيء أبدًا.
ينطبق على الجهتين قوله تعالى:"لكي لا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم"
النتيجة تفضي الى أنّ بمقدور القسم الأول من المواطنين أن يفرحوا قليلًا ويحزنوا كثيرًا، وعلى القسم الآخر أن يحبطوا قليلاً ويحزنوا كثيرًا.
د.طارق عبود.
0 comments: