رحلة إلى المدن السنيّة الإيرانيّة
كيف يستطيع السنّة الإيرانيّون الصمود في بلد يهيمن عليه الشيعة؟ إنّه سؤال شائع في أوساط الذين يتابعون الشؤون الإيرانيّة، في ظلّ الكلام عن معاناة السنّة من التمييز الدينيّ على صعيد البلد بأسره وعدم السماح لهم مثلاً ببناء المساجد في المدن الرئيسيّة أو بممارسة شعائرهم الدينيّة. يتألّف السنّة في إيران من مجموعة من الأقليّات الإثنيّة، من عرب إلى أكراد وتركمان. وفي آب/أغسطس، قمتُ بزيارة مدن كرديّة سنيّة في شمال غرب إيران حيث حضرتُ حفل زفاف في بوكان ثمّ سافرت إلى مهاباد وسقز المجاورتين لرؤية كيف يعيش الأكراد السنّة الإيرانيّون. وكانت تلك زيارتي الأولى إلى المنطقة التي تمتدّ فوق محافظتي كردستان وأذربيجان الغربيّة الكبيرتين.
كانت الطريق إلى بوكان جبليّة. وكلّما قطعنا مسافات أكبر، رأينا جبالاً أكثر. فشعرنا وكأنّ كلّ أسرار البلد مخبّأة خلف الجبل الأخير، لكنّنا لن نصل إليه أبداً. وصلنا إلى بوكان في وقت متأخّر، لكنّنا لم نفوّت طقوس الحنّاء التقليديّة التي تسبق حفل الزفاف وتزيَّن العروس خلالها بالحنّاء.
اجتمع الناس في الشارع أمام منزل عائلة العروس. كانوا يغنّون ويرقصون ويحضّرون لوصول العريس. ارتدى الرجال ملابس كرديّة تقليديّة فيما وضعت النساء، وبعضهنّ غير محجبّات، اللمسات الأخيرة على الطاولة التي سيجلس عليها العريس والعروس. وارتدت شقيقات العروس وصديقاتها ملابس صفراء وسوداء، وساعدن العروس على ارتداء ثوبها الأحمر التقليديّ. وعند وصول العريس، انطلق الاحتفال في الشارع وبدأ رجل كبير في السنّ بالغناء رافقه شابّ يعزف على الناي وشابّ آخر يقرع الدنبك، وهو طبلة تُستخدم عادة في الأعراس.
يبدو من الانطباع الأوّل أنّ سكّان بوكان قادرون على الاحتفال بالأعراس بحريّة وفي العلن من دون أيّ تدخّل. وقال لقمان، وهو طالب شابّ من بوكان مقيم في طهران، لـ "المونيتور" إنّ السلطات تحترم هذا النوع من الاحتفالات. وأضاف: "في كلّ مرّة يكون هناك عرس أو احتفال، نأتي إلى بلدتنا. يحترمون تقاليدنا – فكما ترون، لا شيء ممنوع. في اليوم التالي، سيقام حفل الزفاف في قاعة كبيرة جداً في المدينة. وسيتوافد الناس إلى هناك وسيكون الاحتفال ذا طابع أكثر حداثة، ومختلفاً عمّا رأيتموه اليوم".
انتهى الاحتفال عند الساعة الثانية فجراً، وتوجّهنا إلى الفندق الوحيد في المدينة. وتفاجأنا بأنّ الشوارع ما زالت تضجّ بالحياة في تلك الساعة المتأخّرة. فالمطاعم مفتوحة وحفلات الشواء قائمة. في طهران، تكون المتاجر والمرافق مقفلة في هذا الوقت.
وفي اليوم التالي، توجّهنا إلى سقز، وهي مدينة كرديّة قديمة جنوبي بوكان. يجري نهر سقز في المدينة، وتحمل الشوارع أسماء شخصّيات مسلمة بارزة كالخليفة الأوّل أبو بكر الصدّيق والخليفة الثاني عمر بن الخطّاب. لا يبايع الشيعة بشكل عامّ هذين الخليفتين، لكنّ المسجدين في سقز يحملان اسميهما.
من سقز توجّهنا شمالاً إلى مدينة مهاباد. تُعرف هذه المدينة بأنّها عاصمة الجمهوريّة الكرديّة التي كان عمرها قصيراً – جمهوريّة مهاباد – والتي أبصرت النور في كانون الثاني/يناير 1946 وتفكّكت في كانون الأوّل/ديسمبر من السنة نفسها. وصلنا إلى المدينة في وقت الصلاة، فتوجّهنا إلى المسجد الأحمر الذي بني في القرن السابع عشر في زمن الصفويّين. والتقينا هناك بأمين المسجد، الشيخ يحيى اسماعيلي، الذي أقام الصلاة الجماعيّة ثمّ أطلعنا على تاريخ المسجد المؤلّف من 18 قبّة.
فقال: "بنى هذا المسجد بضاق السلطان في عهد الشاه صافي [1642-1629]. وهو أيضاً مدرسة دينيّة درس وعلّم فيها فقهاء بارزون من كردستان. يأتي طلّاب الشريعة إلى هنا للدراسة، ويتمتّع سكّان المنطقة بعلاقة خاصّة مع هذا المكان".
وتابع: "نعيش هنا جنباً إلى جنب مع أشقّائنا الشيعة. ما نريده هو اهتمام أكبر من الحكومة تجاه هذا الصرح لكي يستمرّ الناس في المجيء إلى هنا والصلاة. [نريد أيضاً] أن يستمرّ طلّابنا في الدراسة لكي يبقى مسجدنا منارة للمعرفة والإسلام في منطقتنا".
إنّ الانطباعات الأولى عن المدن في شمال غرب إيران لا تكفي لفهم وضع الأكراد السنّة في إيران فهماً تامّاً، وإن كانت تقدّم فكرة عنه. ففي ما يخصّ الدين، يبدو أنّ السنّة لا يواجهون مشاكل في الصلاة أو الدراسة. ويتعلّم الطلّاب السنّة الدين بناء على رواياتهم التاريخيّة، بما أنّ الروايات الشيعيّة الخاصّة بالتاريخ الإسلاميّ تختلف من نواح عدّة. ووفقاً للإحصاءات الرسميّة، هناك آلاف المساجد السنيّة في إيران، بما في ذلك مساجد ضخمة في زاهدان وكرمانشاه حيث يقيم عدد كبير من السنّة.
وهناك 20 نائباً سنيّاً في البرلمان الإيرانيّ، وثلاثة أعضاء سنّة في مجلس خبراء القيادة المسؤول عن تعيين المرشد الأعلى وصرفه والإشراف على أدائه. (النوّاب السنّة ليسوا أكراداً بل من أقليّات إثنيّة أخرى). ولم يعيّن أيّ سنيّ في منصب وزاريّ قطّ، لكنّه تمّ تعيين دبلوماسيّ سنيّ سفيراً في ولاية الرئيس حسن روحاني الأولى. وهنا تكمن النقطة الأساسيّة، فالمشكلة الرئيسيّة بالنسبة إلى السنّة في إيران هي مشكلة سياسيّة، لا دينيّة.
يتمركز السنّة في إيران على طول الحدود. ويشكّل هذا الأمر وحده عبئاً ثقيلاً عليهم نظراً إلى الوضع في العراق والوضع الأمنيّ الهشّ على حدود مع باكستان. وبالنسبة إلى الأكراد السنّة، لقد دفع تاريخهم في التمرّد وطموحاتهم المتعلّقة بالاستقلال الحكومات الإيرانيّة إلى توخّي الحذر في التعامل معهم. فقد شهدت إيران أكثر من أربع انتفاضات كرديّة بين العام 1922 والسنوات الأولى بعد الثورة الإسلاميّة في العام 1979. وتقود مجموعات كرديّة على الحدود مع العراق حركة تمرّد مستمرّة لكن مكبوتة ضدّ الحكومة الإيرانيّة. وفي سيستان وبلوشستان، تحارب مجموعات مثل جند الله وجيش العدل وأنصار الفرقان الحكومة منذ العام 2004. وتخشى إيران أن يتمكن خصوم الحكومة الإقليميّون، خصوصاً المملكة العربيّة السعوديّة، من تعزيز نفوذهم في البلد، من خلال تلك المجموعات، وأن يشكّلوا بالتالي خطراً أمنيّاً كبيراً على الأمن القوميّ.
إنّ المسألة السنيّة في إيران حسّاسة جداً، وتخطو السلطة في طهران خطوة دقيقة في محاولاتها الهادفة إلى بناء علاقات قد تؤدّي إلى الدمج السنيّ. وفي الوقت نفسه، يقضي همّ السلطة الأساسيّ بحماية البلد من محاولات زعزعة الاستقرار – وهي مهمّة صعبة تتطلّب صبراً ودقّة إلى أقصى الحدود.
علي هاشم صحافي عربي، ومدير شبكة مراسلي محطة الميادين الإخبارية. كان مراسلَ الجزيرة للشؤون الحربية حتى آذار/مارس 2012، وقبل ذلك، كان من كبار الصحافيين لدى شبكة بي بي سي. كتبَ لصحف عربية كثيرة، بما فيها جريدة "السفير" اللبنانية، والصحيفتان المصريتان "المصري اليوم" و"الدستور" وصحيفة "الغد" الأردنية. وكتب أيضًا لصحيفة "ذا غارديان".
0 comments: