Saturday, March 19, 2022

كيف ستؤثر أزمة أوكرانيا على سياسة الشرق الأوسط؟

 كيف ستؤثر أزمة أوكرانيا على سياسة الشرق الأوسط؟

بواسطة آنا بورشفسكايا, سونر چاغاپتاي, غرانت روملي

١٠ مارس ٢٠٢٢

 Illustration of chess pieces and the Russian and Ukrainian flags - source: Reuters

Open imageicon



عن المؤلفين

Anna Borshchevskaya

آنا بورشفسكايا

آنا بورشفسكايا هي زميلة "آيرا وينر" في معهد واشنطن، حيث تركز على سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط.

Soner Cagaptay

سونر چاغاپتاي

سونر چاغاپتاي هو زميل أقدم ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن.

Grant Rumley

غرانت روملي

غرانت روملي هو زميل أقدم في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، حيث يتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية في الشرق الأوسط.

تحليل موجز

يناقش ثلاثة خبراء ما إذا كانت الحرب في أوكرانيا قد تغيّر حسابات واشنطن بشأن التقارب مع تركيا، والانتشار العسكري في المنطقة، والتنافس الأوسع نطاقاً بين القوى العظمى.


"في 3 آذار/مارس، عقد معهد واشنطن منتدى سياسي افتراضي مع آنا بورشيفسكايا، سونر چاغاپتاي، وجرانت روملي. وبورشيفسكايا هي زميلة أقدم في "برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر" التابع للمعهد حول "منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط". وچاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير "برنامج الأبحاث التركي" في المعهد. وروملي هو زميل أقدم في "برنامج مؤسسة غليزر" ومستشار سابق لسياسة الشرق الأوسط في البنتاغون. وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهم".


آنا بورشيفسكايا

يبدو أن هدف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من غزو أوكرانيا هو خوض الحرب الباردة، ولكن مع رسم نهاية مختلفة لها هذه المرة. ورغم الفرحة السائدة بشأن القدرة التي أظهرتها أوكرانيا على التصدي للهجوم الروسي، إلا أن الغزو سيستمر وقد تتحول كييف إلى حلب ثانية.


وتشير ردود فعل دول الشرق الأوسط إزاء الحرب، حتى الآن، إلى أن بوتين قد نجح في بناء علاقات جيدة ونفوذ براغماتي في المنطقة. فالنظامان الإيراني والسوري ووكلاؤهما يدعمون الغزو الروسي في حين تتردد حكومات أخرى في الانحياز إلى أحد طرفيْ النزاع. على سبيل المثال، لا يستطيع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تنفير الرئيس الروسي، بينما تسير إسرائيل على خط دقيق. ومع ذلك، بغض النظر عن مدى المرونة التي سعى بوتين إلى أن يكون عليها، تبقى شراكاته الأقرب مع الجهات الفاعلة المناهضة لأمريكا.


وفيما يتعلق بالتأثيرات المحتملة للحرب على الشرق الأوسط بحد ذاته، هناك عامل أساسي واحد يلعب دوره وهو ارتباط أوكرانيا بالبحر الأسود وبحر آزوف. فموسكو تعتبر هذيْن البحريْن وشرق البحر المتوسط خطاً دفاعياً ثلاثي الجهات يحمي نقطة ضعف روسيا من جهة الجنوب، وبالتالي قد تؤثر نتيجة الحرب على الموقف المستقبلي لبوتين تجاه الدول المختلفة على طول هذه المياه وبالقرب منها. وقد تُعرّض الأزمة أيضاً الأمن الغذائي للخطر، لا سيما في لبنان ومصر وإسرائيل. وقد يؤدي هذا بدوره إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين عبر المنطقة. وقد استخدم بوتين مثل هذه التدفقات كسلاح في الماضي ولن يتردد في فعل ذلك مجدداً. بالإضافة إلى ذلك، نظراً للعلاقات التجارية لروسيا مع دول الشرق الأوسط، فإن تدفق العقوبات الدولية ضد موسكو سيصيب المنطقة مالياً. وقد تأثرت أساساً أسعار الطاقة.


وعلى الرغم من أن بوتين تجنّب الوقوع في مأزق في سوريا، إلا أنه قد لا يتمكن من النجاح بذلك في أوكرانيا. وسيستغل نفوذه الاستراتيجي في الشرق الوسط لمواصلة القتال، ولكن مثلما أكسبه نجاحه العسكري في سوريا الاحترام في جميع أنحاء المنطقة، فإن عدم نجاحه في النهاية في أوكرانيا يمكن أن يهدد مكانته. ومع ذلك، لا ينبغي للمجتمع الدولي انتظار حدوث ذلك. وقد اتبع بوتين نهج يقوم على إشراك كافة الجهات الحكومية للضغط على الغرب، لذلك على الغرب أن يفعل الشيء نفسه لتحديه.


ومن خلال القيام بذلك، على واشنطن أن لا تقلل من شأن قدرة روسيا ورغبتها في اختبار القوات الأمريكية. واستناداً إلى ما ستكشفه فصول الصراع الأوكراني، قد تعتمد القوات الروسية على مثل هذه الاختبارات في سوريا، كما فعلت في الماضي.


وعموماً، يشوب نظرة قادة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى الولايات المتحدة قدر كبير من عدم اليقين في الوقت الحالي، ويعمد الكثيرون إلى تنويع سياساتهم الخارجية لأنهم لا يعتقدون أنهم قادرون على الاعتماد على واشنطن. على سبيل المثال، أثّر هذا التصور على دولة الإمارات خلال المداولات الأولية للأمم المتحدة حول كيفية الرد على الغزو. لذلك يجب على المسؤولين النظر بإمعان في النفوذ الأمريكي، وتقييم ما نجح وما يمكن القيام به بشكل مختلف. وعلى الرغم من أن واشنطن لم تمنع الغزو، إلا أنها اتخذت الخطوة الفعالة التي تمثلت في الكشف عن معلومات حول خطط روسيا لخلق عملية خفية سرية كاذبة. وهذا ما ترك بوتين دون أي عذر مصطنع حتى للغزو، وقوّض مصداقيته وسرديته.


وفيما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني، غالباً ما كان المسؤولون الروس يدافعون عن طهران أثناء المفاوضات. وعلى الرغم من إشارتهم بأنهم يفضلون إيران غير نووية، إلا أنهم يستطيعون تحمّل الانتظار في هذه القضية. لذلك، ينبغي أن يشك المسؤولون الغربيون في أي ادعاء روسي بأن التعاون في أوكرانيا مرتبط بالتعاون في الاتفاق الإيراني.


سونر چاغاپتاي

يمكن وصف سياسة تركيا تجاه الحرب بأنها "الحياد المؤيد لأوكرانيا". وتوفر الأزمة فرصة استراتيجية لأنقرة في المرحلة القادمة لتحسين علاقاتها مع واشنطن.


وبالنسبة للرئيس التركي أردوغان، فكان قد بنى رابطاً مشتركاً مع بوتين منذ تواصل الأخير معه عقب محاولة الانقلاب عام 2016، لكن البلدين ليسا حليفين. وعلى وجه الخصوص، لا يزالان متنافسين على البحر الأسود، حيث تم التركيز مؤخراً على "اتفاقية مونترو" لعام 1936 التي تنظم الوصول البحري. وبموجب شروطها، يمكن للدول الساحلية فقط الاحتفاظ بقوات بحرية كبيرة ودائمة على البحر الأسود، وتركيا هي "الحارس المُعيّن" لتحديد السفن التي يمكن أن تبحر عبر المضائق الغربية أثناء الحرب. ومع ذلك، هناك بعض الغموض حول هذه الجوانب القانونية، ولا تزال روسيا القوة العسكرية المتفوقة.


وبالتالي، تَعتبر أنقرة أوكرانيا حليفاً رئيسياً في إقامة قوة موازنة في وجه موسكو وستبذل جهدها لمنع سقوط كييف في قبضة بوتين. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لأردوغان أن يتحمل تكلفة تنفير روسيا إلى حدّ كبير لأن الكرملين يمكنه فعل الكثير لتهديد احتمالات إعادة انتخابه في 2023. على سبيل المثال، إذا استمرت الحرب وأدت المساعدة التركية إلى قلب ميزان القوى لصالح كييف، فبإمكان بوتين القيام بعمل عسكري في سوريا يؤدي إلى تدفق اللاجئين نحو تركيا، و / أو تنفيذ عقوبات تجارية وسياحية تقوّض انتعاشها الاقتصادي. حتى أنه قد يبدأ اشتباكات مباشرة مع القوات التركية أو وكلائها في سوريا.


ومن الناحية العملية، يعني ذلك أن أنقرة ستدعم أوكرانيا دبلوماسياً ومادياً، لكن دون انضمامها إلى العقوبات الاقتصادية ضد روسيا. كما ستنفذ "اتفاقية مونترو" بطريقة "محايدة" بل مفيدة في الغالب، خاصة إذا استمرت الحرب.


ونظراً لأن الحرب أضافت جرعة من الروح الواقعية إلى وجهات نظر تركيا بشأن روسيا، فقد حان الوقت لقيام واشنطن بإشراك أنقرة في محادثات إستراتيجية أعمق - وبشكل مثالي بصورة غير علنية. يجب أن تركز هذه المداولات على التوصل إلى صفقة كبرى تشمل العناصر التالية: زيادة التعاون الثنائي بشأن أوكرانيا؛ إلغاء صفقة صواريخ "إس -400" التركية مع موسكو؛ إعادة النظر في سياسة الولايات المتحدة تجاه القوات الكردية في سوريا؛ إعادة دعوة تركيا إلى مشروع طائرات "F-35"؛ السعي للحصول على موافقة الكونغرس الأمريكي على مبيعات طائرات "F-16" لأنقرة؛ وصياغة اتفاقيات صارمة تتمثل بعدم السماح لروسيا بمضايقة القوات التركية والوكلاء الأتراك في سوريا.


غرانت روملي

على المدى القريب، من غير المرجح أن يتأثر الموقف العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط بصورة مباشرة بالأزمة الأوكرانية. فمعظم القوات التي كان قد تمّ تغيير مواقعها لدعم الحلفاء في "الناتو" متمركزة أساساً في أوروبا، باستثناء عناصر الفرقة 82 المحمولة جواً. ومع ذلك، فإن استمرار الصراع لمدة طويلة يمكن أن يقيّد بعض الجهود العسكرية الأمريكية المهمة الطويلة الأمد في المنطقة.


ومن الأمثلة على ذلك البعثات الأمريكية التي تركز على طمأنة الحلفاء. وقد يؤدي القتال طويل الأمد في أوروبا إلى سحب بعض هذه الأصول التي يكثر الطلب عليها من مناطق مثل الخليج العربي لدعم حلفاء "الناتو" بشكل أفضل.


وعلى نطاق أوسع، تشكّل الحرب لحظة توفّر الوضوح للولايات المتحدة وشركائها. فإسرائيل قلقة للغاية من زعزعة استقرار علاقاتها مع روسيا بشأن سوريا. ويشعر الأردن بالقلق حيال الأمن على حدوده، خاصة فيما يتعلق بتهريب المخدرات. وتكترث الإمارات والسعودية لعلاقاتهما الوثيقة وطويلة الأمد مع روسيا، لا سيما في قطاع النفط باعتبارهما أعضاء في كارتل "أوبك بلس". ومن ناحية أخرى، ينظر العديد من الشركاء إلى الولايات المتحدة على أنها قوة آخذة في الانسحاب [من الشرق الأوسط] وأن روسيا والصين هما ملاذاً آمناً في وجه هذا الواقع. وبالتالي، على واشنطن تعزيز موجة الدعم الدولي التي أطلقتها لأوكرانيا، ليتم مقارنة الحشد السريع للغرب للمساعدات العسكرية والعقوبات الاقتصادية مع إجراءات اتخذتها (أو تقاعست عن اتخاذها) قوى عظمى منافسة أخرى في المنطقة وخارجها.


وفيما يتعلق بالعقوبات بحد ذاتها، سيكون للإجراءات المختلفة التي تستهدف اقتصاد روسيا وقطاعها الدفاعي آثار ثانوية على مبيعات الأسلحة الروسية إلى الشرق الأوسط. وعلى الرغم من المخاطر المستمرة لاحتمال الخضوع لعقوبات "قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات"، فقد لجأ شركاء الولايات المتحدة أحياناً إلى الكرملين لشراء معدات كانت إما أرخص ثمناً أو قُدمت بشروط أقل صرامةً. والآن مع ازدياد العقوبات المفروضة على روسيا، سيضطر هؤلاء الشركاء إلى تقييم المخاطر الإضافية عند التفكير في عمليات الشراء هذه. ومن شأن هذا التحوّل في الأحداث أن يمنح المسؤولين الأمريكيين فرصة للتدخل وإعادة هؤلاء الشركاء في المنطقة إلى كنف أمريكا - على الرغم من أنه قد يدفعهم أيضاً للتوجه إلى الصين أو جهات مزوّدة أخرى بدلاً من الولايات المتحدة.

Wednesday, February 12, 2020

خيارات تركيا للضغط على روسيا في إدلب محدودة

خيارات تركيا للضغط على روسيا في إدلب محدودة
المرصد السياسي 3260

خيارات تركيا للضغط على روسيا في إدلب محدودة

 11 شباط/فبراير 2020

تقوّض الحملة العسكرية المستمرة ضدّ المتمردين والمدنيين في إدلب الاتفاقات التي توصل إليها الرئيسان فلاديمير بوتين ورجيب طيب أردوغان، إلى جانب تسببها بإرسال مئات الآلاف من اللاجئين الفارين باتجاه الحدود التركية. فقد كان للرئيسين سابقاً تصوراً يتمثل بتعايش الجيش التركي والفصائل السورية المتمردة التي يدعمها في المحافظة جنباً إلى جنب مع القوات الروسية والسورية. غير أن العملية العسكرية المتجددة التي شنّها بوتين وبشار الأسد أثارت الشكوك حول ما إذا كان بإمكان أردوغان منعهما من الاستيلاء على معظم الأراضي أو جميعها. وفي 4 شباط/فبراير، حذر الرئيس التركي من أنه "لن يسمح للقوات السورية بالتقدم"، لكن خياراته في متابعة هذا الإنذار محدودة بسبب مجموعة من العوامل الاستراتيجية والسياسية.
أردوغان بحاجة إلى التوافق مع بوتين
رغم أن أردوغان هو السياسي الأكثر نفوذاً في تاريخ تركيا الانتخابي الحديث، إلا أن الانقلاب الفاشل عام 2016 جعله يشعر بأنه عرضة للخطر. وقد استغل بوتين هذه المخاوف كجزء من جهوده الأوسع نطاقاً لتصوير نفسه كحامي القادة المهددين في جميع أنحاء العالم، من الأسد إلى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. وبعد فترة وجيزة من محاولة الانقلاب، اتصل بوتين بأردوغان قبل أن يفعل ذلك أي من الحلفاء الغربيين التقليديين لتركيا، ثم واصل تقديم الدعم في مختلف القطاعات، حتى إن حملة القمع التي أعقبت الانقلاب جعلت أردوغان غير مرحب به على نطاق واسع في العواصم الأوروبية.
وتاريخياً، تُعد روسيا أبرز الأعداء الجيوسياسيين لتركيا، غير أن بوتين تراجع عمداً عن هذا الموقف سعياً منه إلى دق اسفين بين [أعضاء] حلف "الناتو". وفي إطار هذا التغير في المواقف (مهما كان مؤقتاً)، دعم بوتين وأردوغان الانفراج في العلاقات، وعقدا اتفاقات بشأن المسائل الأمنية (على سبيل المثال، شراء تركيا لأنظمة الدفاع الصاروخي الروسية "S-400") وتجنبا المواجهة في مساعيهما العسكرية في المنطقة، أولاً في سوريا، ولاحقاً في ليبيا. 
وفي الوقت نفسه، فإن تاريخ تركيا الطويل الحافل بتعرضها للتخويف من قبل روسيا يجعل أردوغان متردداً في تحدي بوتين. ومن بين جميع الدول المجاورة لها، روسيا هي الوحيدة التي تخشاها أنقرة حقاً. فبين القرنين الخامس عشر والعشرين، خاض الشعبان ما يقرب من عشرين حرباً، تم التحريض لجميعها من قبل الروس الذين فازوا فيها في النهاية.
وبالتالي، يحرص القادة الأتراك على تجنب تصعيد الأزمة الحالية في إدلب. ورغم أن القوات التركية قد تصدّت للقوات السورية المحلية والوكيلة إلى حدّ ما، إلا أن أنقرة ستتجنب المواجهة العسكرية الأوسع مع روسيا حول إدلب.
أنقرة بحاجة إلى موسكو في ليبيا
قبل العام الماضي، كان الصراع المتأزم بين الحكومة الليبية المعترف بها دولياً في طرابلس وقوات الجنرال خليفة حفتر المتمركزة في الشرق قد وصل عموماً إلى طريق مسدود. وكان هذا الركود، رغم هشاشته، مقبولاً إلى حد ما لتركيا طالما أن حكومة طرابلس (التي تدعمها تركيا) لم تتعرض لتهديد خطير من قبل حفتر (الذي يحظى بدعم خصوم أردوغان في المنطقة، والإمارات العربية المتحدة ومصر).
ولكن مع مرور العام واندلاع القتال مرة أخرى بشكل جدي، غيرت روسيا اللعبة من خلال تعزيز دعمها العسكري لحفتر. ومن خلال تزويده بالمواد الأساسية (على سبيل المثال، قدرة الحرب الليلية)، والمزيد من المرتزقة المدربين جيدًا (أي "جيش فاغنر")، والدراية الفنية لإسقاط طائرات بدون طيار والتي وفرتها تركيا لحكومة طرابلس، حوّل بوتين القائد حفتر إلى تهديد مدمر في وجه حلفاء أنقرة المحليين. وقد أرغم ذلك أردوغان على نشر قواته في ليبيا، وسعيه للحصول على مساعدة روسيا لضمان وقف لإطلاق الناريمكن أن يمنع حفتر من الاستيلاء على طرابلس.
وعلى الرغم من فشل بوتين في التوسط لوقف إطلاق النار بشكل نهائي في قمة عُقدت في كانون الثاني/يناير في موسكو، إلا أنه قلل من دعمه القوي لحفتر - في الوقت الحالي. ويمنحه ذلك فرصة لربط سياسته إزاء سوريا بسياسته تجاه ليبيا عند التعامل مع تركيا. وإذا واصل أردوغان عمليات التصدي التي يشنها في إدلب، فمن المرجح أن يجدد بوتين دعمه الكامل لحفتر، ليضع بذلك طرابلس في قبضة الجنرال. 
وهذا السيناريو غير مقبول لأنقرة، ليس فقط لأنه سيكون بمثابة إهانة لأردوغان في المنطقة، بل أيضاً لأنه سيؤدي إلى محاصرة تركيا في منطقة البحر المتوسط من قبل الخصوم القدامى (اليونان وقبرص) والجدد (مصر وإسرائيل). وخلال السنوات القليلة الماضية، أطلقت هذه الدول الأربع مبادرات مختلفة تتعلق بالغاز الطبيعي والأمن، وهي مبادرات تعتقد أنقرة أنها ستتبلور لتصبح تعاوناً استراتيجياً نشطاً ضد تركيا. وقد لعب هذا الخوف دوراً رئيسياً في قرار أردوغان في تشرين الثاني/نوفمبر بتوقيع اتفاقية الحدود البحرية مع ليبيا، مما أسفر عن رسم خط قد يتيح له اعتراض التكتل البحري الناشئ بين قبرص ومصر واليونان وإسرائيل، والتصدي في الوقت نفسه للضغوط المصرية -الإماراتية على طرابلس. لكن إثارة غضب بوتين في سوريا قد تقلب هذه الاستراتيجية رأساً على عقب.
أردوغان بحاجة إلى التصرف حول اللاجئين
تستضيف تركيا أساساً حوالي 4 ملايين لاجئ سوري، وإذا سقطت محافظة إدلب، فقد تمارس حركات النزوح الجماعية الناتجة عن ذلك ضغوطاً كبيرة على موارد أنقرة وتتسبب في المزيد من ردود الفعل المحلية. فالبيئة السياسية في تركيا مستقطبة إلى حد كبير بين الكتل المؤيدة لأردوغان والمناهضة له، لكن الاستياء من اللاجئين السوريين هو قضية نادرة يتحد بشأنها الرأي العام. وبعد أن رحّب الأتراك بملايين السوريين الفارين واستضافوهم منذ ما يقرب من عقد من الزمن، يبدو الآن أن معظم الأتراك يعتقدون أن وجودهم يعيق جهود الحكومة لمعالجة الركود الاقتصادي والتحديات الأخرى. ووفقاً لاستطلاع حديث أجرته "جامعة قادر هاس"، فإن ما يقرب من 70 في المائة من الأتراك الذين شاركوا في الاستطلاع "غير راضين" عن وجود اللاجئين.
وبالتالي، إذا واصلت روسيا والأسد حملتلهما لإخلاء إدلب، فلن توافق تركيا بمفردها على استيعاب جميع تدفقات اللاجئين الناتجة عن الحملة. وعوضاً عن ذلك، من المرجح أن يحاول أردوغان توجيه اللاجئين نحو أوروبا، إما بشكل غير مباشر عبر بلدان ثالثة أو عن طريق فتح أبواب تركيا والسماح لهم بالعبور إلى اليونان.
أجَلْ لأردوغان بعض النفوذ
إن هدف بوتين هو إنهاء الحرب في سوريا بشروط مؤاتية له وللأسد، والتوصل في نهاية المطاف إلى تسوية سياسية من خلال ما يسمى بـ"عملية الأستانة". وتُعتبر مشاركة تركيا في هذه العملية أمر أساسي إذا كانت لنتيجتها أن تحصل على نوع من الشرعية الدولية. فمن دون موافقة أنقرة، ستصبح "عملية الأستانة" نادياً "لأصدقاء الأسد" بنظر العالم، لأن روسيا وإيران هما المشاركان الآخران الحاليان فقط في هذه العملية.
ويدرك بوتين أيضاً أن الإفراط في ممارسة الضغوط في إدلب قد يعيد أردوغان إلى ذراع واشنطن، وبالتالي يكرر خطأ جوزيف ستالين في 1945-1946، عندما دفعت مطالبات السوفييت بأراضٍ تركية إلى انضمام البلاد إلى حلف شمال الأطلسي وتصبح حليفاً مقرباً من الولايات المتحدة. ويبدو أن الكرملين يدرك أن مصالحه الاستراتيجية الطويلة الأمد ستتحقق بشكل أفضل من خلال عرض اتفاق جديد على أردوغان في إدلب، حتى لو كان يعتزم خرق ذلك الاتفاق في وقت لاحق. وربما يسمح بوتين لتركيا بشن ضربات رمزية قوية على أهداف نظام الأسد.
غير أنه من أجل الحفاظ على التوازن، لن تسمح موسكو لأردوغان بطرد قوات الأسد من إدلب بشكل كامل. ونظراً للطبيعة غير المتناسقة لعلاقة تركيا مع روسيا والتهديد الحقيقي الذي تشكله موسكو على المصالح التركية في ليبيا، سيضطر أردوغان إلى القبول باتفاق حول إدلب إذا عرض عليه بوتين اتفاق كهذا.
وسيرتكز هذا الاتفاق المحتمل على الأرجح على المصالح الأساسية للأسد. فنظامه ذو القيادة العلوية لا يزال يرغب في استعادة أكبر مساحة ممكنة من الأراضي، ولكن بأقل عدد ممكن من السكان العرب السنّة، بما أن شرارة انتفاضة 2011 انطلقت من هذه المجتمعات. ويشير ذلك إلى أنه حالما يضمن الأسد أمن الطريقين السريعين الاستراتيجيين "M4 " و "M5" اللذان يمران عبر إدلب شرقاً وجنوباً، فقد يسمح لأردوغان - على الأقل مؤقتاً - بالسيطرة على القسمين الغربي والشمالي من المحافظة المتاخمين لتركيا. ومن شأن ترتيب كهذا أن يحصر معظم سكان إدلب (بمن فيهم حوالي 2 -3 ملايين مدني) في منطقة تبلغ مساحتها حوالي 1000 ميل مربع. لكن المخاطرة بهذا الوضع البشري الهش قد يكون الثمن الذي هم على استعداد لدفعه من أجل إيجاد حل لإدلب في وقت ما في المستقبل .

سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" في معهد واشنطن ومؤلف الكتاب "إمبراطورية أردوغان: تركيا وسياسة الشرق الأوسط".

Wednesday, August 21, 2019

هل ستصبح تركيا والصين صديقتيْن؟

هل ستصبح تركيا والصين صديقتيْن؟
المرصد السياسي 3166

هل ستصبح تركيا والصين صديقتيْن؟

 14 آب/أغسطس 2019
في حزيران/يونيو المنصرم، أفادت بعض التقارير بأن البنك المركزي الصيني حوّل مليار دولار إلى تركيا كجزء من اتفاقية لتبادل العملات يعود تاريخها إلى عام 2012. وفي حين يشكّل هذا التدفق النقدي أكبر تحويل للأموال وفّرته بكين إلى أنقرة، إلّا أن أقصى ما يمكن أن يسفر عنه هو إقراض مبلغ بسيط قصير الأجل لاحتياطيات النقد الأجنبي المتناقصة في تركيا. ولكي ترعى الصين بالكامل اقتصاد تركيا المتعثر، سيتعين على الحكومتيْن التغلب على الخلافات السياسية التاريخية الرئيسية بينهما، لا سيّما فيما يتعلق بالأويغوريين الأتراك في منطقة شينجيانغ المضطربة في الصين.
العلاقات الاقتصادية تحت اردوغان
نظراً لقلة الموارد الطبيعية الخاصة بتركيا، تعتمد البلاد على عمليات ضخ رأس المال الأجنبي والعلاقات القوية مع الأسواق الدولية لتحقيق النمو. وكان النجاح الانتخابي الذي حققه الرئيس رجب طيب أردوغان منذ عام 2003 مدفوعاً إلى حد كبير بالمبالغ القياسية للاستثمار الأجنبي المباشر الذي اجتذبته البلاد خلال فترة ولايته، ومعظمه من أوروبا. وقد أدى النمو الاقتصادي الناتج عن ذلك إلى تعزيز قاعدة ناخبيه - فالكثير من معجبيه المتعصبين ينجذبون إليه لأنه ساعد على انتشالهم من الفقر.
ومع ذلك، تقلص الاقتصاد التركي في الآونة الأخيرة وسط التقلبات المالية وعدم اليقين السياسي وارتفاع معدلات البطالة (15 في المائة حالياً) والتضخم المتفشي (17 في المائة). لذلك يحتاج أردوغان إلى المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر لتمويل النمو الذي يعتمد عليه من الناحية السياسية.
وبالنظر إلى حجم الاقتصاد التركي - أقل بقليل من تريليون دولار - فإن صندوق النقد الدولي الذي مقره في الولايات المتحدة، هو وحده الذي سيكون لديه الأموال اللازمة لإنقاذه في حال حدوث انهيار مالي، وهذا ما يدركه أردوغان جيداً. بالإضافة إلى ذلك يدرك الرئيس التركي أيضاً أن روسيا لا تستطيع الاضطلاع بهذا الدور بمفردها. ومن الناحية النظرية، تستطيع الصين القيام بذلك، ولكن الأمر سيتطلب قيام كلا البلدين بتجاوز خلافاتهما بشأن قضية الأويغور.
وفي حزيران/يونيو 2018، أرسل أردوغان وزير خارجيته ميفلوت جاويش أوغلو لطلب المساعدة الاقتصادية من بكين وسط حاجة ماسة إليها - فقد كانت الليرة في طور الانهيار ولاحت في الأفق أزمة مالية أوسع نطاقاً، وكانت العلاقات مع واشنطن في أزمة بسبب قضية القس أندرو برونسون والعقوبات الأمريكية ذات الصلة. ومع ذلك، عاد جاويش أوغلو إلى بلاده دون وعد من الصينيين بإنقاذ [الوضع الاقتصادي لتركيا].
وقد بدت هذه النتيجة مفاجِئة بالنظر إلى أن بكين كانت تتودد إلى تركيا من خلال "مبادرة الحزام والطريق" المُغرية، التي تهدف إلى تطوير طرق تجارية واسعة النطاق إلى أوروبا وغيرها من المناطق. وفي حالة أنقرة، كان ذلك يعني تقديم قروض ميسّرة لبناء خطوط مترو جديدة وبنية تحتية أخرى. وتقع هذه الاستثمارات في صلب سياسة الصين تجاه تركيا، فقد أعربت أنقرة مراراً وتكراراً عن رغبتها في الاستفادة من "مبادرة الحزام والطريق". ووضعت جميع الوزارات التركية تقريباً خططاً لتعزيز العلاقات مع الصين، وتم دمج "مبادرة الحزام والطريق" في أوراق السياسة الخاصة بالبيروقراطية التركية.
النظر في دور الأويغور
على الرغم من هذا الزخم، لا تزال بكين تشعر بقلق عميق حيال علاقات أنقرة التاريخية الوثيقة مع مجتمع الأويغور الأتراك في شينجيانغ. وهذه الأخيرة، التي كانت تُعرف سابقاً باسم تركستان الشرقية، كانت جزءاً رمزياً وأحياناً دولة تابعة لأسرة تشينغ الصينية في القرن التاسع عشر. ويعود تدخّل تركيا في شؤون الأويغور إلى الحقبة التي قام فيها السلاطين العثمانيون باستخدام الإسلام لتوسيع نفوذهم.
على سبيل المثال، في عام 1873، أرسل السلطان عبد العزيز شحنة أسلحة إلى الأويغوريين لاستخدامها ضد سلالة تشينغ مقابل الاعتراف بحكم سلطنته. وفي ذلك الوقت، كانت سلاسلة تشينغ تحاول مرة أخرى التوغل في عمق شينجيانغ، ووضع الأسس للهيمنة الصينية التي اكتسبت طابعاً رسمياً وترسخت بشدة في القرن التالي.
وبعد اندماج المنطقة التركية بصورة عميقة في الصين في أعقاب الثورة الشيوعية عام 1949، بدأ ماو تسي تونغ حملة قمع ضد القوميين الأويغور، مما أرغم الكثيرين على الفرار بحثاً عن لجوء سياسي. ورحّبت تركيا بأقاربها العرقيين بصدر رحب، في الوقت الذي كانت فيه حليفة جديدة للولايات المتحدة وملتزمة لها في الحرب الباردة. وبذلك، عززت علاقاتها مع واشنطن وقوّضت [مكانة] بكين قبل الحرب الكورية. وطوال خمسينات وستينات القرن الماضي، أعادت أنقرة توطين آلاف الأويغوريين بدعم من الولايات المتحدة. وفي أواخر السبعينيات، وصلت موجة أخرى منهم في أعقاب إصلاحات ماو.
وفي عهد أردوغان، حافظت أنقرة على دعمها القوي للأويغور؛ ففي عام 2009 وصف السياسات الصينية في شينجيانغ بأنها "إبادة جماعية". وفي الوقت نفسه، برزت القضية كأخطر تحد سياسي للزعيم الصيني شي جين بينغ، مما دفعه للرد على الأويغور باتخاذه إجراءات صارمة ضدهم. فبالإضافة إلى إرساله مئات آلاف الأشخاص من هذه الأقلية إلى "معسكرات إعادة التعليم"، فقد بدأ أيضاً بمراقبة جماعية لمجتمعاتهم عبر أنظمة كاميرات الدائرة المغلقة والتنصت عالي التقنية لهواتفهم الذكية ومتابعتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي الآونة الأخيرة، قلل أردوغان من أهمية القضية في وسائل الإعلام التركية التي تهيمن عليها الدولة، والتي أصبحت تنقل الآن قصصاً قليلة جداً عن معاناة الأويغور. ويبدو أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى التملّق إلى بكين. ومع ذلك، لا يزال كبار نشطاء الأويغور يجتمعون بانتظام مع المسؤولين الأتراك، ويظل مجتمعهم في تركيا مركز الشتات الأويغوري العالمي. ولا تتوفر بيانات رسمية عن أعدادهم، لكن يُقدر أن عشرات آلاف الأويغوريين يعيشون في تركيا، وهم محبوبين من قبل النخبة السياسية التركية. وإدراكاً منها لهذه العلاقات العميقة، ابتعدت بكين عن توفير مئات مليارات الدولارات اللازمة لدرء انهيار الاقتصاد التركي بصورة قاطعة.
القليل من التجارة أو الاستثمار
هناك عقبة أخرى أمام قيام بكين بتوفير شريان حياة اقتصادي لأنقرة يتمثّل بعلاقاتهما التجارية والمالية الحالية المحدودة نسبياً. فعلى الرغم من قيام أردوغان بتنويع شركاء تركيا التجاريين، إلا أنّه لم يظهر أحد منهم، بما في ذلك الصين، كبديل قوي لأسواق البلاد التقليدية في الغرب. فصادرات تركيا إلى الصين لا تشكّل سوى جزءاً صغيراً من صادراتها إلى أوروبا وأمريكا، كما أن عجزها التجاري كبير - في عام 2018، بلغت استيراداتها من الصين 19.4 مليار دولار، بينما بلغت صادراتها إليها 2.7 مليار دولار فقط. وعلى الرغم من ارتفاع الحصة التجارية التركية مع الدول غير الغربية إلى حوالي 30 في المائة، إلّا أن الاتحاد الأوروبي وحده ظل يمثل 42 في المائة من تجارة البلاد في العام الماضي، مقارنة بـ 6 في المائة فقط مع الصين.
وبالمثل، بينما تَنوّع شركاء الاستثمار مع تركيا في ظل [رئاسة] أردوغان، إلّا أن الحصة الأمريكية والأوروبية من التدفقات الداخلة للاستثمار الأجنبي المباشر زادت هي الأخرى أيضاً. ففي عام 2005، كان الاتحاد الأوروبي أكبر مستثمر في تركيا، حيث مثلت حصته 58 في المائة من صافي التدفقات الداخلة للاستثمار الأجنبي المباشر؛ وبحلول عام 2018، ارتفعت النسبة إلى 61 في المائة. وفي المقابل، ظلت تدفقات الاستثمار الصيني أقل من 1 في المائة.
وتحمل بعض التطورات الحديثة وعداً بالنمو في المستقبل - على سبيل المثال، تمتلك شركة صينية مملوكة للدولة حصة أغلبية في أرصفة حاويات كومبورت (Kumport) في إسطنبول؛ وأفادت بعض التقارير أن شركات صينية عرضت تولّيها إدارة جسر البوسفور "الثالث" في إسطنبول. ومع ذلك، لا يزال الحيز المالي الشامل لبكين في تركيا صغير جداً مقارنة بنظيره الغربي.
الخاتمة
بما أن تركيا هي دولة شحيحة الموارد مع فاتورة استيرادٍ طاقة سنوية تبلغ حوالي 30 مليار دولار، لذلك تحتاج إلى عشرات مليارات الدولارات من الاستثمار الأجنبي المباشر أو التدفقات النقدية السنوية الضخمة للحفاظ على نموها الاقتصادي وعلى رضى قاعدة أردوغان. إن اجتذاب مثل هذه المكاسب غير المرتقبة من الصين قد يتطلب قيام أنقرة بتغيير سياستها تجاه الأويغور بشكل جوهري، وهذه مهمة صعبة في ضوء الأنماط التاريخية. ومع ذلك، واجهت الشركات التركية مؤخراً صعوبات في الحصول على ائتمانات من مستثمرين أوروبيين وأمريكيين، مما خلق فراغاً قد يقرر المستثمرون الصينيون ملأه من خلال توفيرهم مبالغ إئتمان أكبر من تلك التي يوفرها المستثمرون الغربيون. وإذا تحقق هذا السيناريو، فقد يزداد التأثير السياسي لبكين على أنقرة بدرجة كبيرة، مما يُقرّب تركيا من المحور الصيني - الروسي الناشئ في السياسة العالمية.

سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" في معهد واشنطن ومؤلف الكتاب المرتقب "إمبراطورية أردوغان: تركيا وسياسة الشرق الأوسط".دنيز يوكسل هي مساعدة باحثة في المعهد

Thursday, August 9, 2018

السلطان الجديد وأزمة تركيا الحديثة

السلطان الجديد وأزمة تركيا الحديثة
صفحات رأي ومقالات

السلطان الجديد وأزمة تركيا الحديثة

 "ستراتيجيكا"
1 آب/أغسطس 2018
أدى الانقلاب الفاشل الذي وقع في 15 تموز/يوليو 2016 إلى تغيير السياسة التركية بشكل لا رجعة فيه. وعلى الرغم من إحباط محاولة الانقلاب لحسن الحظ، إلا أن المسار الذي اختاره أردوغان بعد الانقلاب - باستخدامه سلطات حالة الطوارئ التي مُنحت له لملاحقة مدبّري الانقلاب على وجه التحديد، ولكنه شرع بدلاً من ذلك في شن حملة أوسع نطاقاً بكثير ضد جميع المعارضين، والعديد منهم لم تكن له أي علاقة بالانقلاب بأي شكل من الأشكال - يسلّط الضوء على حقيقة مؤسفة بشأن البلاد: تركيا تتخبط في أزمة كبيرة.  
فالبلاد منقسمة بين مؤيدين ومعارضين لأردوغان الذي فاز في دورات انتخابية متتالية في تركيا منذ عام 2002 على أساس برنامج شعبوي يميني. وقد قام أردوغان بتشويه صورة الناخبين الذين لن يصوتوا له على الأرجح وقمعهم، في إستراتيجية فاقمت إلى حدّ كبير الاستقطاب في تركيا، التي أصبحت الآن منقسمة بشكل كبير بين معسكر موالٍ لأردوغان وآخر مناهض له: ويتمثل الأول بائتلاف محافظ يميني من القوميين الأتراك يرى أن البلاد هي جنة؛ والثاني، وهو مجموعة فضفاضة من اليساريين والعلمانيين والليبراليين والأكراد، يعتقد أنه يعيش في الجحيم.
والأمر الأكثر مدعاة للقلق هو أن الجماعات الإرهابية على غرار «حزب العمال الكردستاني» اليساري المتطرف وتنظيم «الدولة الإسلامية» الجهادي تستغل هذا الانقسام في تركيا لتزيد إراقة الدماء وتعمق حدة الانقسام حتى بدرجة أكبر. فبين صيف عامي 2015 ونهاية 2016 وحده، واجهت تركيا 33 هجوماً إرهابياً كبيراً لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» و«حزب العمال الكردستاني»، مما أسفر عن مقتل ما يقرب من 550 شخصاً. ولجعل الأمور أكثر سوءاً، تتطلع الجهات الفاعلة الدولية، بدءاً من نظام الأسد في دمشق، التي حاولت أنقرة الإطاحة به أثناء الحرب الأهلية السورية، وإلى روسيا وإيران، اللتان تدعمان الأسد، إلى رؤية سقوط أردوغان وانزلاق تركيا في دوامة من الفوضى. 
باختصار، تعيش تركيا في أزمة. هل يمكنها أن تنفجر في ظل هذه الضغوط؟ لا شك في ذلك، وإذا ما انفجرت، سيكون الأمر بمثابة كارثة حتماً. [وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن] تركيا تحتل موقعاً حاسماً - جغرافياً وأيديولوجياً - بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وهي من أقدم الديمقراطيات ومن أكبر الاقتصاديات بين إيطاليا والهند؛ لذا فإن انهيارها قد يغرق العالم في فوضى أكبر بكثير من تلك المستعرة حالياً في سوريا والعراق.   
لكن هل تستطيع تركيا الابتعاد عن مثل هذا المستقبل المؤسف؟ من المستحيل إعطاء أي إجابة على هذا السؤال دون فهم كامل لارتقاء أردوغان السلطة وتطلعاته السياسية. فالرئيس التركي هو أحد أكثر رجال الدولة نفوذاً في عصرنا. وقد فاز هو والحزب الذي يتزعمه - في البداية بحكم القانون، وحالياً بحكم الأمر الواقع - بخمس انتخابات برلمانية، وثلاث دورات من الانتخابات المحلية على الصعيد الوطني، واثنان من الانتخابات الرئاسية بالاقتراع الشعبي، واستفتاءان بين عامي 2002 وأوائل 2018.
ولكن ماذا سيكون الإرث الدائم لأردوغان؟ فحيث يرزح سجله تحت جميع الانتقادات، إلّا أنه يتضمن العديد من العناصر الإيجابية، وعلى وجه التحديد، نجاحه في تحقيق النمو الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة. وهذا هو الجانب المشرق لأردوغان. فعندما جاء «حزب العدالة والتنمية» الذي ينتمي إليه أردوغان إلى السلطة في عام 2002، كانت تركيا دولة معظمها من الفقراء. إلّا أنها الآن بلد معظم مواطنيه من ذوي الدخل المتوسط ​​. فقد تحسنت الحياة في جميع أنحاء البلاد، ويتمتع المواطنون ببنية تحتية وخدمات أفضل بشكل عام. في عام 2002، كان معدل وفيات الأمهات في تركيا مشابهاً إلى حد ما لنظيره في سوريا ما قبل الحرب؛ والآن هو قريب من المعدل في اسبانيا. بعبارة أخرى، اعتاد الأتراك العيش كالسوريين، بينما يعيشون الآن كالأسبان. وهذا هو السبب في استمرار تمتع أردوغان بشعبية كبيرة وفوزه بالانتخابات، على الرغم من أن دخل الفرد في تركيا لم يرتفع إلا بشكل تدريجي منذ تلك الزيادة "المعجزة" بين عامي 2002 و 2008. وفي المستقبل، سيكون الاقتصاد نقطة ضعف أردوغان. فإذا استمرت تركيا في النمو، فسوف تستمر قاعدة أردوغان في دعمه.
وعلى أي حال، فباستثناء الانهيار الاقتصادي، سيدخل أردوغان التاريخ باعتباره أحد قادة تركيا الأكثر شهرةً وكفاءةً ونفوذاً، ليصطف على الأرجح إلى جانب أتاتورك الذي آمن بأن النظام السياسي العلماني المتأثر بالثقافة الغربية الذي بناه في القرن العشرين لن ينهار أبداً.
كانت العلمانية سمة مميزة لإصلاحات أتاتورك وإرثه في تركيا. فأتاتورك، الضابط في الجيش العثماني، كان نتاجاً للإمبراطورية العثمانية بعد سقوطها: وكان علمانياً تماماً وموالياً للغرب. وجاءت محاولته التي تمثلت بإضفاء الطابع الغربي والأوروبي على تركيا بشكل جذري كردّ على انهيار الإمبراطورية، التي أطلق عليها اسم "رجل أوروبا المريض". وكان يعتقد أن العثمانيين فشلوا لأنهم لم يصبحوا علمانيين ولم يتأثروا بأوروبا بدرجة كافية. فلو استطاعت تركيا أن تصبح قوية على غرار الدول الأوروبية - في تلك الأيام - التي ضمت العديد من القوى العظمى في العالم، فربما كانت ستتجنب المصير المظلم للإمبراطورية العثمانية، التي مزقتها الدول الأوروبية في نهاية الحرب العالمية الأولى. لقد أراد أتاتورك أن يجعل تركيا أوروبيةً تماماً كي تصبح دولة لا تقهر من جديد.    
وقد تم انتقال موضوع استعادة عظمة تركيا إلى الأجيال اللاحقة من الزعماء الأتراك، وآخرهم أردوغان. ومن أجل تحقيق هذه الغاية عمد إلى جعل تركيا دولة شرق أوسطية قوية قادرة على منافسة الأوروبيين وقوى عظمى أخرى.   
ولا يزال انهيار الإمبراطورية العثمانية يرسم معالم نظرة تركيا حول مكانتها في العالم، مما يخلف أساطير وأهداف يتردد صداها في العقلية التركية. فالدول التي كانت سابقاً إمبراطوريات عظمى لا تنسى أبداً هذا الواقع، وغالباً ما تتمتع بإحساس مرن ومبالغ فيه لأيام المجد، وتاريخ عن سبب عدم كونها إمبراطورية بعد [انهيارها السابق] - وهو مزيج حارق من الفخر بماضٍ مثالي، وشكوى من عظمة مفقودة أو مسروقة، واستعداد للتأثر (بمقدار أقل من التملق والعرضة للتلاعب) بسياسيين فعالين.        
وبعد أن حَكَمَ تركيا لمدة 16 عاماً، منذ عام 2002، جمع أردوغان ما يكفي من النفوذ لتقويض إرث أتاتورك، وجعل "الكماليين" الأصليين - لو كانوا على قيد الحياة - يشككون في ثقتهم التامة بنظامهم. لقد قام بتفكيك علمانية أتاتورك خلال فترة تزيد قليلاً على عقد من الزمن، ونجح بذلك دون رحمة كبيرة لخصومه. وجعل شكلاً محافظاً ومتصلّباً من الإسلام يطغى على الأنظمة السياسية والتعليمية في البلاد وأبعد تركيا عن أوروبا والغرب. وللمفارقة، إن هذا هو جانب "أتاتورك" من أردوغان. وبالطبع، لا يشارك أردوغان قيم أتاتورك بل فقط أساليبه. وكما رسم أتاتورك معالم تركيا على صورته الخاصة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، يقوم أردوغان برسم دولة جديدة، ولكن تلك التي ترى نفسها إسلامية بشكل عميق في الأمور السياسية والسياسة الخارجية - لجعلها قوة عظمى من جديد. 
وأردوغان هو بمثابة "أتاتورك" معادٍ لأتاتورك. كونه ترعرع في تركيا علمانية وواجه استبعاداً اجتماعياً في سن مبكرة بسبب تديّنه وآرائه المحافظة، يتحرّك أردوغان انطلاقاً من عدائه المتأصل لأساليب أتاتورك. ومع ذلك فقد قام بتفكيك نظام أتاتورك مستخدماً الأدوات ذاتها التي وفّرتها له النخبة المؤسسة في البلاد: مؤسسات الدولة وهندسة اجتماعية من المستويات العليا إلى المستويات الدنيا، وكلاهما من السمات المميزة لإصلاحات أتاتورك. وقد استخدم أردوغان وسائل أتاتورك وأساليبه لاستبدال حتى أتاتورك نفسه. والنتيجة النهائية هي قيام تركيا حالياً بالتمييز ضد المواطنين الذين لا يُعرّفون أنفسهم في المقام الأول من خلال الإسلام، وتحديداً الإسلام السني المحافظ، المذهب الذي ينتمي إليه أردوغان. 
ومع ذلك، يواجه أردوغان مشكلة: ففي حين وصل أتاتورك إلى السلطة كجنرال عسكري، يتمتع أردوغان بتفويض ديمقراطي للحكم. وما هو أكثر من ذلك، أن تركيا تنقسم مناصفة تقريباً بين معسكرات مؤيدة لأردوغان وأخرى معادية له. وعلى الرغم من هذه الحقائق، يريد أردوغان بشدة تغيير تركيا على صورته بنفس الطريقة التي قام بها أتاتورك، وهنا تكمن أزمة تركيا الحديثة، وهي أن نصف البلاد تحتضن النسخة السياسية التي يتبعها اردوغان، لكن النصف الآخر يعارضها بشدة. وطالما تبقى تركيا ديمقراطية حقاً، فلا يمكن لأردوغان إكمال ثورته.
وقد أدى ذلك إلى ولادة الجانب غير الليبرالي الأظلم لأردوغان: فمن أجل أن يمضي قدماً في برنامجه للتغيير الثوري ضد مجتمع منقسم، قام بتخريب الديمقراطية في البلاد. فمن خلال استغلال شعبيته، تخلّى عن الضوابط والتوازنات الديمقراطية، بما فيها وسائل الإعلام والمحاكم. وبدلاً من تقديمه المزيد من الحريات للجميع، قام بقمع خصومه واعتقال المعارضين، وتوفير الحريات غير المتكافئة لقاعدته المحافظة والاسلامية. وعلى الرغم من فوزه بصورة ديمقراطية، إلا أن أردوغان أصبح أكثر استبداداً بمرور الوقت، وضمن عدم وجود تساوي في حقل العمل السياسي من أجل منع السلطة من الإفلات من يديه.
لقد أنجز ذلك من خلال لعبه دور "المستضعف المتسلط". فمن خلال الاعتماد على روايته القائمة على الاستشهاد السياسي في ظل النظام العلماني في التسعينيات، يصوّر أردوغان نفسه الآن كضحية يضطر على مضض إلى قمع أولئك المتآمرين لتقويض سلطته. فقد أرهب وسائل الإعلام ومجتمع الأعمال من خلال عمليات تدقيق ضريبية ذات دوافع سياسية وسَجَن المنشقين والعلماء والصحفيين. وفي ظل حكمه يقوم رجال الشرطة بانتظام بقمع مسيرات المعارضة السلمية. ووفقاً لذلك، فعلى الرغم من استمرار حرية الانتخابات التركية، إلّا أنها غير عادلة على نحو متزايد. وقد أحدثت إستراتيجية أردوغان الانتخابية استقطاباً راسخاً في تركيا: فقد احتشدت قاعدته المحافظة، التي تشكل حوالي نصف البلاد، بحماسة حوله للدفاع عنه. أما النصف الآخر من البلاد، الذي تعرض للوحشية من قبل أردوغان، فيشعر باستياء عميق تجاهه. وعلى نحو متزايد، هناك القليل من القواسم المشتركة بين هذين الكيانين.
ومع ذلك، يرغب أردوغان في رسم معالم كامل تركيا على صورته. فقد جعل إظفاء طابعه الشخصي على السلطة وهيمنته على المؤسسات السياسية والمدنية إلى جعل تركيا دولة هشة من الناحية السياسية، وفي حالة أزمة دائمة. وقد حقق نجاحاً هائلاً في الانتخابات من خلال تشويه صور مجموعات سكانية مختلفة لم تكن لتصوّت له ومهاجمتها سياسياً. وإذا ما جمعناها معاً، تمثّل هذه الفئات ما يقرب من نصف الناخبين الأتراك، ولا يزال هناك الكثير من الأعداء الذين ينتظرون سقوطه من السلطة. ويدرك أردوغان أن أفعاله لم تترك له أي طريقة لائقة للخروج من المشهد [السياسي]. والأكثر من ذلك، أنه عندما يترك أردوغان منصبه - وسوف يفعل ذلك يوماً ما - لن يتبقى سوى عدد قليل من المؤسسات الدائمة للحفاظ على وحدة البلاد.    
ولن تستطيع تركيا الخروج من أزمتها إلّا من خلال سن دستور جديد يوفر حريات واسعة لجميع المواطنين. يجب التذكر أن النظام العلماني الذي أوجد أردوغان هو النظام الذي عمل على حماية الحرية من الدين، ولكن لم يعمل على حماية الحرية الدينية. لقد عكس أردوغان هذه المواقف. وفي المرحلة القادمة، من أجل التأكد من احترام حقوق كل من تركيا التقية والعلمانية، يجب أن يضمن الدستور كلا شكلي الحرية الدينية. ومن شأن قيام ميثاق ليبرالي جديد أن يسمح لتركيا أيضاً بحل قضيتها مع الأكراد من خلال ضمان حقوق واسعة للجميع، بمن فيهم الأكراد. وإذا كان بوسع تركيا تحقيق السلام مع الأكراد، فبإمكانها أيضاً تحقيق السلام مع الأكراد الموالين لـ «حزب العمال الكردستاني» في شمال سوريا، وهو تطور مرحب به سيؤدي بدوره إلى منح أنقرة حاجز وقائي ضد عدم الاستقرار، والجهادية، والصراع الطائفي، والحرب الأهلية، التي من المحتمل أن تنحدر جميعها من سوريا وتهدد تركيا لعقود من الزمن.
وإذا قاد أردوغان تركيا بموجب دستور جديد يجمع معاً النصفين المتباينين في البلاد وفَتَحَ الطريق أمام السلام مع الأكراد، فقد يترك وراءه إرثاً سياسياً إيجابياً أيضاً. على أردوغان الإقرار بأن وقت الثورات بأسلوب أتاتورك - التي تتضمن الهندسة الاجتماعية في إطار تنازلي في تركيا (أو، في هذه الحالة، في أي دولة أخرى) - قد انتهى. وتجدر الإشارة إلى أنه في عشرينيات القرن الماضي كان معظم سكان تركيا - التي رسم أتاتورك معالمها على صورته - من الفلاحين الذين كانت نسبتهم حوالي 75 في المائة. وبالكاد كان 11 في المائة من الأتراك متعلمين، كما أن العديد من أولئك الأشخاص الأكثر تثقيفاً كانوا يدعمون أجندة أتاتورك. أما تركيا المعاصرة، التي يأمل أردوغان في رسم معالمها على صورته، فإن 80 في المائة من سكانها هم من الحضريين و97 في المائة من شعبها متعلّم. 
لذا من غير المحتمل، وربما من المستحيل، أن يتمكن أردوغان من فرض رؤيته المتمثلة بإسلام محافظ متشدد على المجتمع التركي بأكمله، وهو مزيج من المجموعات الاجتماعية والسياسية والعرقية والدينية التي يعارض الكثير منها أجندة أردوغان. وعلى الرغم من جهوده الرامية إلى خلق طبقة من الرأسماليين الإسلاميين المحسوبين، إلّا أن الجزء الأكبر من أصحاب الثروة في البلاد لا يزال منحازاً إلى "جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك" ["توسياد"]، التي تُعتبر نادي "فورتشن 500" التركي، المتمسكة بالقيم العلمانية والديمقراطية والليبرالية الموالية للغرب. إن تركيا بكل بساطة دولة متنوعة جداً ديموغرافياً، وكبيرة جداً اقتصادياً، ومعقدة للغاية سياسياً من أن يتمكن شخص واحد من رسم معالمها على صورته الخاصة على خلفية نظام ديمقراطي وقوى سياسية متنافسة. وطالما أنّ تركيا دولةٌ ديمقراطية، لن يتمكّن أردوغان من الاستمرار في الحكم كما يريد. بعبارة أخرى، يمكنه الاستمرار في تشكيل تركيا بشكل تنازلي فقط من خلال وضع حدّ للديمقراطية. صحيح أن أردوغان فاز في انتخابات 24 حزيران/يونيو، لكن فقط بعد إدارته حملة غير عادلة كلياً، وكان فوزه بهامش ضئيل بواقع 4 نقاط فقط. وهو يعرف تمام المعرفة أنه إذا ما تُرك الأمر للأدوات الديمقراطية، لن يقوم المجتمع التركي بانتخابه. لذا من "المنطقي" أن يصبح أردوغان أكثر استبداداً في المستقبل ليتجنب الإطاحة به، بغض النظر عما إذا كان في ما مضى "ديمقراطياً ملتزماً".
يتعين على أردوغان تجنّب هذا السيناريو من أجل مصلحته الخاصة. فالرئيس التركي يرغب في جعل بلاده قوة عظمى. لقد جعل تركيا دولة مؤلفة من الطبقة الوسطى، ولديها الآن فرصة التحوّل إلى اقتصاد متقدّم إذا قام ببناء مجتمع معلومات يقوم على اعتماد القيمة المضافة، بما فيها البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات. بعبارة أخرى، بإمكان تركيا التي يريدها أردوغان مواصلة صعودها إذا حوّلت نفسها من دولة تصدّر السيارات (تصديرها الرئيسي) إلى مركز لموقع "غوغل". فرأسمال تركيا وطبقاتها الإبداعية ستترك البلاد إذا ما استمرت الحكومة في مسارها الحالي، كما أن رؤوس الأموال والمواهب الدولية ستتجنب دخول البلاد إذا لم يتمكن قادتها من توفير نفاذ غير مقيّد إلى الإنترنت وضمان حرية التعبير ووسائل الإعلام والتجمعات والاتحادات واحترام حقوق الأفراد والمخاوف البيئية والمساحات الحضرية والمساواة بين الجنسين - وهي جميعها مطالب رئيسية عبّر عنها المحتجون في "منتزه جيزي" ومنتقدو أردوغان في اليسار واليمين السياسي. وإذا بقيت تركيا مجتمعاً منفتحاً، ستواصل تقدّمها. أما إذا لم تعد ديمقراطية، فسيتوقف هذا التقدّم.   
إن نمو تركيا والحظوظ السياسية لأردوغان مترابطة بشكل وثيق. كما أنها مرتبطة بالاقتصاد العالمي وبالحريات المتوافرة للمواطنين في معظم البلدان المتقدمة. وفي الواقع، يمثّل الاقتصاد نقطة ضعف أردوغان. فعلى الرغم من نمو اقتصاد تركيا بشكل ملحوظ من حيث الحجم منذ عام 2002، إلا أنه لا يزال صغيراً بما يكفي لكي ينكشف بشكل يرثى له على الصدمات الدولية المحتملة. لا بدّ من الاتعاظ من التباطؤ العالمي الذي كاد يدمّر اقتصاد كوريا الجنوبية في عام 1997، في وقت كان فيه اقتصاد ذلك البلد قابلاً للمقارنة تقريباً مع اقتصاد تركيا في أوائل عام 2017. لقد كان انهيار اقتصادي السبب الذي أتى بأردوغان إلى السلطة عام 2002، ويمكن لانهيار اقتصادي مماثل أن يعني نهاية حكمه.    
إذا لم يستمع أردوغان إلى هذه النصيحة، سيعرّض بلاده لنزاع بين الكتلتين، تلك المؤيدة لـ «حزب العدالة والتنمية» والأخرى المناهضة له، كما أن هجمات تنظيم «الدولة الإسلامية» و«حزب العمال الكردستاني» والأعداء الأجانب لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة الناشئة. وفي هذا المسار المؤسف، سيعزز أردوغان أكثر فأكثر القومية الاستبدادية. إنه سيناريو "تدبير الأمور" الذي ستبقى بموجبه تركيا في حالة دائمة من الأزمات والصراع الاجتماعي. وللأسف، قد تتدهور الحالة حتى إلى ما هو أسوأ. وفي حين يسعى أردوغان إلى رسم معالم تركيا على صورته الخاصة، قامعاً في طريقه نصف سكان البلاد الذين يعارضونه، فإن معارضيه سيعملون بلا كلل من أجل تقويض أجندته: فالعنف سيولد العنف. ومن شأن الاستقطاب المحلي في تركيا أن يجعلها منكشفة على مكائد أعدائها الأجانب: موسكو، التي ستعمل وراء الكواليس لتقويض ثورة أردوغان؛ دمشق، التي ستستفيد من روابطها مع اليساريين الأتراك المتطرفين لإيذاء أردوغان؛ وأخيراً وليس آخراً، الجهاديون الذين سيعارضون في نهاية المطاف طابع الإسلام السياسي الذي يفرضه أردوغان من اليمين المتطرف. وإذ تترافق أزمة البلاد مع هذه التهديدات الخارجية، فيمكنها أن تقذف تركيا إلى آتون حرب أهلية خطيرة. وفي ظل هذا السيناريو، سيتمّ ذكر أردوغان باعتباره "السلطان الفاشل" الذي تسبب في انهيار تركيا الحديثة. والكرة الآن في ملعب أردوغان.         

سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف الكتاب الجديد: "السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة".

العقوبات الأمريكية قد تضرّ بالاقتصاد التركي وتقوّي أردوغان

العقوبات الأمريكية قد تضرّ بالاقتصاد التركي وتقوّي أردوغان
صفحات رأي ومقالات

العقوبات الأمريكية قد تضرّ بالاقتصاد التركي وتقوّي أردوغان

 "أكسيوس"
7 آب/أغسطس 2018
في الأول من آب/أغسطس، فرضت واشنطن عقوبات على اثنين من وزارء الحكومة التركية وجمّدت أموالهما ردّاً على اعتقال القسّ الأمريكي أندرو برانسون ومواطنين أمريكيين آخرين، في الوقت الذي تواصل فيه الليرة التركية تراجعها حيث فقدت ستة في المائة من قيمتها خلال أقل من أسبوع.
المشهد العام: الاقتصاد التركي معرّضٌ للانهيار، وهو يمر بالفعل في مرحلة ضعف حتى قبل فرض العقوبات. لكن في حين قد تشلّ هذه العقوبات الاقتصاد التركي، إلا أنها من غير المحتمل أن تشكل تهديداً لنفوذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وأدّى منهج أردوغان الشعبوي إلى حدوث استقطاب في المجتمع التركي منذ توليه الحكم عام 2003 حيث انقسمت البلاد إلى قطبين تقريباً من خلال دعمه [لهذا الانقسام]. لكن أردوغان نجح في تحييد المعارضة حين استعان بالشرطة الوطنية لقمع تظاهرات المعارضة واعتقال المعارضين وتزوير الانتخابات لضمان الفوز.
والأكثر من ذلك هو أن المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس التركي في تموز/يوليو 2016 قد غيّرت المشهد السياسي في البلاد بشكل واضح كونها حوّلت اردوغان إلى مُنقذ تركي مسلم في أعين أنصاره اليمينيين. فقد رأوا أن محاولة الانقلاب لم تكن اعتداءً محلياً على النظام الدستوري التركي فحسب، بل أيضاً محاولة من قبل "قوى أجنبية" غربية للتآمر ضد أردوغان والإطاحة به. ومن وجهة النظر هذه، اعتُبرت تلك المحاولة الخطوة الأحدث في سلسلة من الهجمات التاريخية التي شنّها الغرب ضد الدولة التركية والأمة الإسلامية وتعود إلى أيام الصليبيين.
الخلاصة: يعتقد مناصرو أردوغان أن تركيا لا تستطيع الوفاء بمهمتها التاريخية المتمثلة بتحقيق عظمة تركيا واسترجاع كرامة الأمة الإسلامية في العالم بدون أردوغان. ولذلك إذا عانى الاقتصاد التركي من تفكك بسبب العقوبات الأمريكية، فلا يجدر التوقع بأن يضعف أردوغان على الساحة الداخلية، بل من المرجح أن يشتدّ التفاف مناصريه حوله.

سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف الكتاب: "السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة". وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "آكسيوس".

Wednesday, June 6, 2018

العقوبات على تركيا: التوفيق بين وجهات النظر المتباينة في واشنطن

العقوبات على تركيا: التوفيق بين وجهات النظر المتباينة في واشنطن
المرصد السياسي 2975

العقوبات على تركيا: التوفيق بين وجهات النظر المتباينة في واشنطن

 1 حزيران/يونيو 2018
في 4 حزيران/يونيو، سيزور وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو واشنطن للاجتماع بوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو. وتأتي هذه الزيارة في وقتٍ حسّاسٍ تمرّ به العلاقات الأمريكية- التركية، إذ تواجه العلاقات الثنائية أكبر أزمة لها منذ حرب قبرص عام 1974. وقد انتهى ذلك النزاع بحظرٍ أمريكي مؤذٍ على توريد الأسلحة إلى أنقرة - وعانت العلاقة بشدة ولم تتطبع تماماً لحوالى نصف عقدٍ، وشكّلت سابقة لأي تدهور آخر في العلاقات إذا لم يجد البلدان وسيلة لسد الفجوات المتسعة بينهما حول القضايا الحالية.
اختلافات لا يمكن تفاديها؟
في الوقت الحالي، تؤدي عدة عوامل إلى تقويض العلاقة الثنائية، ومنها:
المطالب التركية بتسليم فتح الله كولن، وهو رجل دين تركي يُقيم في الولايات المتحدة ويبدو أن أتباعه في الجيش التركي أدّوا دوراً ملحوظاً في الانقلاب الفاشل ضد الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2016.
التحالف التكتيكي الأمريكي مع «وحدات حماية الشعب»هذه الجماعة السورية الكردية هي فرعٌ من «حزب العمّال الكردستاني»، المعترف به كجماعة إرهابية من قبل تركيا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. ولكن مع اعتزام الرئيس ترامب عدم إرسال المزيد من القوات البرية إلى سوريا، ستستمر واشنطن في الاعتماد على «وحدات حماية الشعب» لاحتواء تنظيم «الدولة الإسلامية».
قرار تركيا بشراء بطاريات الصواريخ الروسية "إس-400". بعد أن خاب أمل أنقرة بسبب رفض واشنطن تزويدها بأنظمة دفاع صاروخية من نوع "باتريوت" وفق شروط مؤاتية، تلجأ تركيا إلى شراء أنظمة الدفاع الجوي الروسية للحصول على صفقة أفضل من واشنطن، بما فيها عمليات نقل تكنولوجية محتملة. لكن التصرف الحالي المعادي لتركيا في الكونغرس الأمريكي سيجعل من الصعب التوصل إلى مثل هذه الصفقة. وقد يهدف أردوغان أيضاً إلى ردع أي مؤامرات مستقبلية ضده. فخلال محاولة الانقلاب عام 2016، قصفت طائرات تركية من طراز "إف-16" قصره، وقد يعتقد أن المنظومة الروسية الصنع ذات الدرجة العالية من التشغيل الآلي ستحميه بشكلٍ أفضل من قواته الجوية المتوافقة مع قدرة حلف "الناتو".
اعتقال خمسة مواطنين أمريكيين في تركيا، وأبرزهم القس أندرو برونسون الذي دعا إلى إطلاقه الرئيس ترامب شخصياً  عبر "تويتر". وقال أردوغان إنه يعتبر هؤلاء الموقوفين بمثابة أوراق مساومة، آملاً مقايضتهم بكولن.
انتهاكات تركيا للعقوبات الأمريكية ضد إيران. ستُقرر وزارة الخزانة الأمريكية ما إذا كان هناك احتمال فرض غرامة على "بنك خلق" المملوك للدولة بسبب هذه الانتهاكات، وسيؤدي العقاب الحاد بشكلٍ مؤكَّد تقريباً إلى تفاقم التأثير المفسد الذي تُحدثه هذه المسألة على العلاقات الثنائية. وتنظر أنقرة إلى القضية المرفوعة ضد "بنك خلق" - بما فيها حُكم القاضي الأمريكي على المدير حقان أتيلا بالسجن لمدة اثنين وثلاثين شهراً - على أنها سياسية بطبيعتها. وعارضت السلطات التركية ذلك الحُكم الصادر في كانون الثاني/يناير، مدّعيةً أن المحاكم الأمريكية لم تتخذ إجراءات مماثلة ضد مصارف أخرى ومدراء آخرين بسبب انتهاك [نظام] العقوبات على إيران (على سبيل المثال، "بي إن بي باريبا" - BNP Paribas). وبناءً على ذلك، ستؤدي الغرامة الكبيرة ضد "بنك خلق" إلى ترسيخ قناعة أردوغان والعديد من النخب التركية بأن واشنطن تتربص لهم.
انعدام كبير للثقة بين النخب السياسية، لا سيما بشأن مسائل الشرق الأوسط. منذ صعود أردوغان إلى السلطة في عام 2003، تقوضت العلاقات بسبب الخلافات حول قضايا السياسة الخارجية الرئيسية، بما فيها حرب العراق عام 2003، وأزمة "الأسطول" التركية- الإسرائيلية عام 2010، وقرار أنقرة عام 2010 بالتصويت ضد العقوبات الإيرانية المدعومة من قبل الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي.
انقسامات بين صانعي القرار السياسي في الولايات المتحدة
منذ بعض الوقت، كانت عدة معسكرات في واشنطن تتناقش بشأن كيفية التعامل مع هذه الاختلافات مع تركيا. فمن غير المحتمل أن يتم حل أي من القضايا المذكورة أعلاه في أي وقتٍ قريب، ناهيك لصالح الاستفادة من العلاقات الثنائية؛ وفي الواقع لا يشير مسار هذه الأحداث حاليّاً إلا بالمزيد من التدهور. ومع ذلك، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين العمل على تخطي الخلافات الكبيرة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية - وداخل السلطة التنفيذية نفسها - التي من الأفضل اعتماد مقاربة سياسية إزاءها لمعالجة هذه القضايا.
وفي الكونغرس الأمريكي، يريد العديد من المشرعين اعتماد مقاربة تستخدم القوة مع أردوغان، وهم يعتقدون أنها قد تحاكي رد موسكو عندما أسقطت تركيا طائرة روسية انتهكت أجواءها في تشرين الثاني/نوفمبر 2015. فبعد أن فرض الكرملين عقوبات صارمة، سافر أردوغان إلى سانت بطرسبرغ في آب/أغسطس 2016 واعتذر شخصيّاً من فلاديمير بوتين. وفي وقت لاحق، بدأت تركيا وروسيا بتهدئة التوترات بينهما حول الحرب الأهلية في سوريا في حين اتفقتا على بعض الصفقات الخاصة هناك. ويبدو أن الكونغرس الأمريكي يعتقد أن الموقف القوي المماثل للولايات المتحدة هو فقط الذي سيقنع أردوغان بتبني سياسات ودية تجاه المصالح الأمريكية.
ويشمل التشريع الذي يرعاه بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي مثل توم تيليس (جمهوري من ولاية كارولاينا الشمالية) وجيمس لانكفورد (جمهوري من ولاية أوكلاهوما) وجين شاهين (ديمقراطية من ولاية نيوهامبشير) عقوباتٍ تستهدف مسؤولين أتراك كانوا السبب وراء اعتقال المواطنين الأمريكيين، وكذلك إجراءات لتأخير المشاركة التركية في مشروع "جوينت سترايك فايتر" (مشروع JSF) لطائرات "إف-35" إذا أكملت أنقرة عملية شراء بطاريات الصواريخ "إس-400" من روسيا. كما أن عملية الشراء نفسها قد تعرّض تركيا لتدابير عقابية عبر "قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات". ومن الصعب بشكلٍ واضح تبرير عمليات تفريط السلطة التنفيذية في هذا القانون، وربما ستتطلب هذه العمليات إثباتاً يدل على عدم وجود أي خطر استراتيجي كبير - وهو أمرٌ يصعب تحقيقه نظراً إلى أنه سيتم نشرالمنظومة الروسية على مقربة شديدة من طائرات "إف-35" التركية والأمريكية، مما يثير مخاوف أمنية جدّية تتجاوز إمكانية التشغيل البيني مع أنظمة "الناتو".
ومن جانبهما، لا يدعم البيت الأبيض ولا وزارة الخارجية الأمريكية فرض عقوبات على أنقرة - على الأقل ليس قبل الانتخابات التركية في 24 حزيران/يونيو. وبدلاً من ذلك، يريدان أن يقوما بمحاولة أخرى عبر إدارة المشاكل المختلفة مع أردوغان، باعتقادهما أن تركيا ما زالت أكبر من قائدها الذي طالت ولايته. وبالمثل، تُبدي وزارة الدفاع الأمريكية استياءها من سياسة العقوبات، على الرغم من أن "القيادة المركزية الأمريكية"، التي يغطي نطاق مسؤوليتها سوريا، لا تؤيد السياسات الموالية لأردوغان.
وعلى الرغم من أنه لا يجب التقليل من شأن غضب الكونغرس الأمريكي إزاء أردوغان، فإن أولئك الذين يدافعون عن نهج "بوتين" الصارم يميلون إلى إساءة فهم العلاقة بين روسيا وتركيا على صعيديْن. أولاً، على الرغم من العلاقات الحميمة في مجال الطاقة بين موسكو وأنقرة، إلّا أنهما لا تزالان على طرفيْ نقيض بشأن معظم القضايا الإقليمية تقريباً، بدءً من سوريا وإلى أوكرانيا - وليس هذا بالأمر المفاجئ نظراً إلى الخصومة التاريخية بينهما. وفي المقابل، تبقى العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا مترسخة في حلف "الناتو" وفي عقودٍ من التعاون العسكري الثنائي، بغض النظر عن خلافاتهما. وبالتالي، فإن تعامل واشنطن مع هذا الحليف له تداعيات عبر النظام الأمني بأكمله الذي تقوده الولايات المتحدة، بما يتجاوز العلاقة مع أنقرة.
ثانياً، لم تشمل سياسة بوتين "الصارمة" تهديدات أو أعمال عسكرية، كما أنه لم يضغط على تركيا كما فعل مع أوكرانيا عبر قطع إمدادات الغاز الطبيعي. وبدلاً من ذلك، اتخذ إجراءً ضد قطاع السياحة وصادرات الخضروات في تركيا، مما كلّف البلاد مليارات الدولارات لكنه لم يصل إلى حد الضغط الهائل المتعلق بالأمن الذي يفكّر فيه بعض المسؤولين الأمريكيين - وهو فئة من أصحاب الضغط أصبح أردوغان حساساً بشكلٍ خاص تجاهها منذ محاولة الانقلاب. وفي المقابل، طلب بوتين تقديم تنازليْن بسيطيْن نسبيّاً من أنقرة هما: الاعتذار، وكما يبدو، تسهيل مشروع خط أنابيب "السيل التركي"، وهو قناة غاز تهدف روسيا تسييرها تحت البحر الأسود إلى تركيا.
بالإضافة إلى ذلك، من شأن أي عقوبات أمريكية أن تخدم الهدف الأسمى الذي يطمح إليه بوتين وهو: التسبب بخلافٍ بين تركيا والولايات المتحدة. فبعد أن عرض على أنقرة صفقات متنوعة في سوريا، بما فيها الضوء الأخضر لمطاردة «وحدات حماية الشعب»، يبدو أن بوتين استجلب الأتراك إلى المكان الذي يريده بالضبط: أي كحلفاء "للناتو" خاب أملهم ويعملون غالباً مع روسيا. ومن شأن العقوبات أن تقرّب تركيا أكثر فأكثر من موسكو - وربما بشكلٍ دائم. وبدلاً من ذلك، إذا تخلى الكونغرس الأمريكي عن محور "معاقبة تركيا"، ستحظى إدارة ترامب بالمزيد من الوقت لحل المشاكل التكنولوجية والسياسية الخاصة بعملية شراء بطاريات الصواريخ "إس-400"، وتتفادى في الوقت نفسه انهيار العلاقات الثنائية.

سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف الكتاب الجديد: "السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة".