NSO وأخواتها: جريمة إسرائيل بحق العالم كله
لشركات الإسرائيلية، المدعومة من الحكومة والجيش، رائدة في مجال تطوير برامج تجسس بواسطة الهواتف الخلوية، وتبيع منتجاتها لدول في الخليج، خاصة السعودية والبحرين والإمارات، التي تستخدمها للتجسس على نشطاء ومعارضين
تؤكد تقارير عديدة، بينها تحقيقات صحفية وأخرى أجرتها مجموعة منظمات حقوقية في أنحاء العالم، أن إسرائيل هي دولة رائدة في صناعة البرامج الالكترونية لأغراض التجسس. وتبيع الشركات الإسرائيلية، في غالب الأحيان، هذا النوع من البرامج الالكترونية لدول ذات نظام دكتاتوري، التي تستخدمها للتجسس على معارضيها بالأساس، كذلك ضد مجموعات منبوذة في تلك المجتمعات، كالمثليين. وأفاد تقرير استقصائي نشرته صحيفة "هآرتس" اليوم، الجمعة، بأن 80% من المؤسسين والعاملين في هذه الشركات هم مسرحون من وحدة التصنت 8200 ووحدات الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي.
أبرز الشركات الإسرائيلية في هذا المجال هي NSO، التي طورت برنامج "بيغاسوس" لتعقب الأفراد بواسطة الهواتف الخليوية المحمولة. ويعمل هذا البرنامج من خلال إرسال رسالة نصية إلى هاتف خليوي، حول موضوع يثير اهتمام المتلقي ويطلب منه فتح الرابط المرفق. بمجرد فتح الرابط يبدأ البرنامج بالعمل دون توقف. وهذا البرنامج الذي طورته NSO، ومقرها في مدينة هرتسيليا، هو "برنامج التجسس الأكثر تسللا لحياة الناس في العالم"، حسبما وصفته مجلة "فوربس". ويمكّن "بيغاسوس" مستخدميه من استغلال كم هائل من المعلومات بواسطة الهاتف الخليوي المستهدف: رصد موقعه، التنصت عليه، تسجيل المحادثات الجارية قربه، تصوير المحيطين به، قراءة وكتابة رسائل نصية وبريد الكتروني، إنزال تطبيقات والتوغل إلى التطبيقات الموجودة في الهاتف، الاستيلاء على الصور والأفلام والملاحظات في رزنامة الهاتف ووجهات الاتصال. وكل هذا بسرية مطلقة ومن دون أن يعرف ويشعر الشخص المستهدف بما يجري في هاتفه.
ويظهر تقرير "هآرتس" أن الشركات الإسرائيلية في هذا المجال باعت قدرات هجومية كهذه إلى الكثير من الدول ذات الأنظمة التي تقمع مواطنيها بشدة بالغة، ومن دون أن تتوفر إمكانية لدى هذه الشركات لمعرفة كيفية استخدام برامجها الالكترونية في ملاحقة المواطنين. ووفقا لإفادات مسؤولين وعاملين في الشركات الإسرائيلية ومنظمات حقوقية في دول عديدة، فقد استخدمت هذه البرامج الالكترونية الهجومية من أجل سجن ناشطين حقوقيين ومثليين وإسكات معارضين أو مجرد مواطنين انتقدوا أنظمة بلادهم، وتوجيه تهم بالكفر في دول إسلامية، لا توجد علاقات رسمية بينها وبين إسرائيل. بل أن هذه الشركات استمرت في بيع هذه البرامج التجسسية حتى بعد الكشف عن إساءة استخدامها ضد مواطنين.
وكشف التقرير أن الشركات الإسرائيلية باعت برامج التجسس وجمع المعلومات الاستخبارية لدول بينها البحرين، إندونيسيا، أنغولا، موزنبيق، جمهورية الدومنيكان، أذربيجان، سويزلاند، بنغلادش، إل سلفادور، بنما، نيكاراغوا، ماليزيا، فيتنام، المكسيك، أوزبكستان، أثيوبيا، جنوب السودان، هندوراس، بيرو، كولومبيا، أوغندا، إكوادور والإمارات العربية المتحدة. وهناك أدلة على أن السعودية استخدمت برنامجا كهذا.
هذه الشركات التي تطور برامج التجسس هي شركات خاصة. لكن المحكمة العليا الإسرائيلية رفضت التماسا ضد هذه الشركات قدمته رئيسة حزب ميرتس، تمار زاندبرغ، والمحامي إيتاي ماك، وطالبا بوقف رخصة تصدير هذه البرامج وسحبها من NSO. لكن بطلب من النيابة العامة الإسرائيلية، نظرت المحكمة في الالتماس خلف أبواب مغلقة، كما أصدرت المحكمة أمر حظر نشر حول قرار الحكم. ولخصت رئيسة المحكمة، القاضية إستير حيوت، بالقول إنه "ما العمل؟ اقتصادنا يستند كثيرا على هذا التصدير".
وقالت الصحيفة في هذا السياق إن وزارة الأمن الإسرائيلية راضية من هذا التعتيم. فالإشراف على هذا النوع من الصادرات يجري بعيدا عن أعين الجمهور، وحتى أنه لا يسمح لأعضاء لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست بالاطلاع على تفاصيل أساسية تتعلق بهذه الصادرات، كما أن الوزارة ترفض الكشف عن قائمة الدول التي تصدر هذه البرامج التجسسية إليها أو يمنع التصدير إليها والمعايير والمواصفات التي توجه الوزارة في قراراتها بهذا الصدد.
"شبح" إسرائيلي في الخليج: الإمارات تتجسس على قطر
تأسست شركة NSO في العام 2010. وقال أحد المؤسسن الثلاثة، عمري لافي، في وصف منتجات شركته، "نحن أشباح. ونحن شفافون بشكل كامل من أجل هذا الهدف، ولا نترك أثرا". لكن بعد ذلك بسنوات تم الكشف عن "أثرٍ" تركه هذا "الشبح" وراءه في أنحاء العالم كله. وبالإمكان القول إنها ليست جريمة هذه الشركة أو غيرها في هذا المجال، التي يسعى مؤسسوها إلى تحقيق أرباح مالية كبيرة، بل أن نشر هذه البرامج التجسسية التي تنتهك حرية وحرمة الأفراد، ملايين الافراد، هي جريمة ترتكبها دولة إسرائيل في أنحاء العالم كله.
واعترف مؤسس آخر لهذه الشركة، هو شاليف خوليو، في مقابلة في العام 2015، بأنه "فكرنا منذ البداية أن نبني منظومة تسمح لجميع أجهزة الاستخبارات وتطبيق القانون بالسيطرة عن بعد على الهواتف، أو لإخراج معلومات منها، بعلم أو بدون علم مستخدم الهاتف. واعتقدنا أن هذا سيكون أمرا بسيطا، لكن تبين أنه معقد جدا. وهذا، عمليا، ما تفعله NSO حتى اليوم. لدينا اليوم آيفون وأندروئيد وجميعها آمنة جدا، لكن في نهاية المطاف نرى أن الجميع يتنصتون على الجميع. الهاتف يذهب معك إلى كل مكان. وكمية المعلومات التي بالإمكان استخراجها عن شخص من هاتفه هائلة جدا، ولا يوجد هاتف آمن اليوم".
ويعتقد أن أبرز حالة تركت فيها NSO أثرا وراءها، هي حالة ناشط حثوث الإنسان الإماراتي، أحمد منصور. فقد تلقى منصور رسالة نصية على هاتفه المحمول، في آب/أغسطس 2016، وتبين أن الرابط بداخلها كان برنامج التجسس "بيغاسوس"، الذي اكتشف حينذاك لأول مرة وأثار هلعا عالميا. ويقبع منصور في السجن الآن ولمدة عشر سنوات، بسبب انتقاداته للنظام في الإمارات من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
وتظهر قصة ملاحقة منصور في دعويين قضائيتين ضد NSO وشركة أخرى باسم "سيركيلس"، التي أسسها إسرائيليون أيضا. وبين مقدميها ناشط حقوقي مكسيكي استهدف ببرنامج "بيغاسوس" ومدعي قطري. وجاء في وثائق أرفقت بإحدى الدعويين أن برامج وأجهزة من إنتاج NSO و"سيركيلس" في الإمارات تجسست على 159 شخصا من أفراد العائلة الحاكمة وموظفين كبار ومواطنين في قطر.
ويظهر من هذه الدعوى أن مواطن إسرائيلي من كبار العاملين في "سيركيلس"، أريك بنون، تلقى في العام 2014 رسالة عبر البريد الالكتروني التابع لأحمد علي الحبسي، عضو المجلس الأعلى للأمن القومي في الإمارات، يبلغه فيها الأخير بأن إدارة المجلس ستتخذ قرارا في الفترة القريبة، بصدد شراء منتجات الشركة التجسسية. وطلب الحبسي من بنون أن يستعرض، في غضون ذلك، قدرات منتجات الشركة، وطلب الحبسي أن يستعرض هذه القدرات من خلال اعتراض محادثات رئيس تحرير صحيفة "العرب" (الإماراتية). وبعد يومين، تلقى الحبسي رسالة ببريده الالكتروني تضمنت تسجيلات محادثاته مع رئيس التحرير.
وقال "بن"، وهو اسم مستعار لمستشار إسرائيلي يزود خدمات تجسس في الإمارات، للصحيفة الإسرائيلية إن الشركات الإسرائيلية معروفة في منطقة الخليج كمزودة معدات تجسس. وأضاف أن "دبي هي زبون كبير لتكنولوجيا التعقب. وهم يعرفون أن التكنولوجيا الأفضل تأتي من إسرائيل". وأشار إلى أن محادثات صوتية بواسطة تطبيقات مشفرة (أي لا تخترق) مثل واتساب وسينغل وتليغرام ممنوعة في الإمارات، ولذلك لا خيار أمام السكان هناك سوى استخدام شبكات الهاتف التي بالإمكان اختراقها.
وتوجد أدلة على أن السعودية تستخدم هذا النوع من التكنولوجيا التجسسية. فقد كشف معهد "سيتيزن لاب"، بداية الشهر الحالي، عن وجود احتمال كبير باستخدام برنامج "بيغاسوس" لتعقب معارض للنظام السعودي في كندا. وتبين أن عملاء النظام السعودي في الرياض استخدموا هذا البرنامج ضد الناشط عمر عبد العزيز، الحاصل على لجوء سياسي في مونتريال. ولم تنف NSO تقرير "سيتزين لاب".
وكشفت الصحيفة عن بيع شركة "فيرنت" الإسرائيلية منظومات تجسس مشابهة إلى النظام في البحرين، رغم أن هذا النظام يقمع معارضيه بقوة مفرطة، وبمساعدة قوات استجلبت من السعودية. وجرى الحكم بالسجن لخمس سنوات على ناشط بحريني، في شباط/فبراير الماضي، بسبب تغريده عبر "تويتر" بانتقادات للنظام.
وقال مصدران من هذه الشركات الإسرائيلية وتواجدا في البحرين، إن "فيرنت" زودت هذا النظام بمنظومات يستدل منها وجود مركز رصد محادثات وأجهزة أخرى لجمع معلومات من الشبكات الاجتماعية. وقال أحد المصدرين الإسرائيليين، "أرنون"، إن الإسرائيليين يحضرون إلى البحرين من أجل تدريب عناصر النظام على الأجهزة أو من أجل تنفيذ أعمال صيانة. وأضاف أن العاملين الإسرائيليين يصلون حاملين جوازات سفر أجنبية ويحظر عليهم التجول في الدولة، ما يعني بقاءهم في غرفهم في الفنادق بعد ساعات العمل.
وتابع "أرنون" أنه "كنت في دول كثيرة. وفي بعضها دربت جنودا وعاملين في أجهزة تطبيق القانون، وفي بعضها الآخر دربنا مقربين، وهم أشخاص يبدون أنهم أبناء العائلة الموسعة للحاكم. وفي البحرين، كان جميع أفراد الطاقم هنودا، وإلى جانبهم أفراد المخابرات البحرينيين، وبصمنهم نشاء. وإذا تعين عليّ أن أتكهن بكيفية استخدام الأنظمة، لقلت إن هذا مرتبط بالاحتجاجات ضد النظام".
دعم الحكومة الإسرائيلية
لقد زودت هذه الشركات الإسرائيلية منتجاتها التجسسية لدول ترتكب الأنظمة فيها جرائم حرب، مثل جنوب السودان وسوازيلاند وغيرهما في أفريقيا. كذلك بيعت منوجات كهذه لبيرو والمكسيك، حيث اكتشف أن السلطات هناك أساءت استخدامها ضد المواطنين.
ولم يكن التطور الهائل في صناعة برامج التجسس الالكتروني في إسرائيل صدفة. إذ أنه بعد انفجار فقاعة الهايتك، في العام 2000، رفعت الحكومة الإسرائيلية حجم الإنفاق الأمني بنسبة 10%، وشجعت صناعة الستارت-أب المحلية في الدخول إلى مجال الحراسة والتجسس.
وبحسب الصحيفة، فإن الجيش الإسرائيلي لعب دور "الدفيئة التجارية"، عندما أخذت وحدات الاستخبارات والتكنولوجيا فيه بالتضخم، فيما المسرحين منها استخدموا خبراتهم في إقامة العديد من شركات الستارت-أب. وحدث ذلك في توقيت "ملائم"، بعد أحداث 11 أيلول 2001، حيث بدأت الدول تزيد مشترياتها لوسائل التجسس على مشتبهين بأنشطة إرهابية أو نشطاء متطرفين. واستجابت خبرة الجنود الإسرائيليين المسرحين من الوحدات ذات العلاقة على هذا الطلب بشكل كامل.
وذكرت دراسة صدرت مؤخرا أنه توجد في إسرائيل قرابة 700 شركة سايبر، أقيمت على أيدي 2300 إسرائيليا، 80% منهم مسرحين من وحدة 8200 ووحدات الاستخبارات العسكرية.
لكن التقرير الاستقصائي لم يتطرق إلى جانب آخر هام، وهو أن هذه الشركات، الأمنية رغم كونها خاصة، وتحصل على دعم كبير من الحكومة الإسرائيلية، يمكن أن تستخدم البرامج والمنظومات الالكترونية، التي تبيعها لدول في الخليج على سبيل المثال، من أجل التجسس على هذه الدول التي تفتح أبوابها أمام إسرائيل، ليكون بمقدورها التحكم بنواح كثيرة.