Wednesday, January 3, 2018

إعادة النظر في عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» بين العامَين 2011 و 2014: دروسٌ للمستقبل

إعادة النظر في عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» بين العامَين 2011 و 2014: دروسٌ للمستقبل
المرصد السياسي 2903

إعادة النظر في عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» بين العامَين 2011 و 2014: دروسٌ للمستقبل

 18 كانون الأول/ديسمبر 2017
عند إخراج تنظيم «الدولة الإسلامية» من الموصل والرقة، أشار عدد كبير من المحلّلين أنّ ذلك لن يمثّل هزيمة كلّية للتنظيم، وإنما العودة إلى مستوى مختلف من التمرّد. ومثل هذه التصريحات تشير ضمناً أيضاً إلى أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» قد يستغلّ الانشقاقات والفراغات المستقبلية في العراق وسوريا كما فعل سابقاً بين العامَين 2009  و 2012، أي في الفترة الممتدة بين هزيمته التكتيكية كتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» وإعادة بروزه في نيسان/أبريل 2013. فما الذي أدّى إلى معاودة الظهور تلك، وكيف تُقارن البيئة الحالية بـ"الهزيمة" الأولى للجماعة؟ قد تُضيئ الإجابة على هذه الأسئلة مسار أي عودة مستقبلية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» والنقاش ذو الصلة حول مستقبل القوّات الأمريكية في العراق وسوريا.
كيف بقي التنظيم وتوسّع؟
هناك خمسة عوامل أساسية ساهمت في معاودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» عام 2013، وهي: انسحاب الولايات المتحدة من العراق في كانون الأوّل/ديسمبر 2011، والضعف المتلازم لقوات الأمن العراقية، ومشاركة التنظيم المتواصلة في أعمال إجرامية محلية وقدرته على استغلال مظالم العراقيين السنّة ضدّ الحكومة المركزية ذات الغالبية الشيعية، وعمليات الهروب الجماعية من السجون من قِبَل رفاق تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق»، واندلاع الحرب في سوريا، الأمر الذي حثّ على تعبئة غير مسبوقة للمقاتلين الأجانب.
الانسحاب الأمريكي وضعف الأمن العراقي. ليس من المستغرب أن تبرز فرص جديدة أمام تنظيم «الدولة الإسلامية» نظراً للتفاوت الهائل بين القدرات الأمنية العراقية والأمريكية. فلو كان الجيش وجهاز المخابرات العراقيان قويّيَن بما فيه الكفاية، لما كان رحيل الولايات المتحدة ليؤثّر بهذا القدر. وعوضاً عن ذلك، منح الانسحاب عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» حرية أكبر في الحركة والعمليات في المناطق التي سبق لهم أن أسسوا فيها وجوداً قوياً أو شبكات دعم واسعة، حرصت القوّات الأمريكية على قمعها عند ظهور حركة «الصحوة» السنّية.
الأعمال الإجرامية. منحَ الفراغ ما بعد عام 2011 المزيد من الفرص لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» للاستغلال أو إنشاء شبكات إجرامية تعمل بالإتجار بالبشر، والاختطاف، والابتزاز، وسرقة المصارف، والتكرير البدائي للنفط، والإتجار بالآثار. كما قام التنظيم باستثمارات خفيّة في شركات محلية مشروعة لمراكمة أصوله المالية.
مظالم السنّة. في أعقاب الانسحاب الأمريكي وحركة «الصحوة»، وعد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بدمج النظام السياسي والأجهزة الأمنية مع أولئك السنة الذين ساعدوا على محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» في أقسام من محافظة الأنبار بين العامَين 2006  و 2009. غير أنّه على مرور الوقت، أصبح مرتاباً أكثر فأكثر من إمكانية عودة الأقليّة السنّية إلى السلطة  وتنصيبهم طاغية آخر على غرار صدّام حسين. وقد دفعت هذه المخاوف الحكومة إلى تهميش الأطراف الفاعلة السنية، مما أدى إلى بروز حركة احتجاجية في كانون الأوّل/ديسمبر 2012. وعندما قامت الحكومة بتدمير مخيّم تظاهري في الرمادي بعد عام، ساهمت في إعادة إشعال حركة تمرّد أكبر كان تنظيم «الدولة الإسلامية» في الموقع المناسب لاستغلالها.
عمليات الهروب من السجون. منذ عام 2011، سمحت عمليات هروب بارزة من سجني "أبو غريب" و"التاجي" وغيرهما لعاملين وقادة رئيسيين في تنظيم «الدولة الإسلامية»، كانوا قد اعتقلوا خلال سنوات الزيادة في عدد القوات/و«الصحوة»، بالعودة إلى التنظيم. وكان العديد من هؤلاء الهاربين مقاتلين مؤهّلين، ومضرّسين خدموا كمضاعفين للقوّة ومجنِّدين فاعلين.      
الجهاد السوري. لعلّ الحرب السورية منحت تنظيم «الدولة الإسلامية»، أكثر من أي عامل آخر، ولوجاً لمجنّدين وأسلحة وتمويل جديد. وشمل ذلك تدفق أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب المستعدّين لمساعدة التنظيم على الفوز بالمعارك وإدارة المناطق الواقعة تحت سيطرته. وعلى الرغم من أنّ عوامل كثيرة قد حرّكت هذه التعبئة، فإن موقع تركيا الاستراتيجي في المنطقة وحدودها المفتوحة مع سوريا ربما شكّلا العاملَين المساعدَين الأكثر أهميّة، فقد استمر تدفّق المقاتلين عبر هذه الحدود دون عوائق حتّى وقت قريب من ربيع عام 2015 عندما بدأت أنقرة في تناول القضية بجدية أكبر.
أوجه التشابه والاختلاف في الوقت الحالي
لا يزال تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكله الحالي، يستغلّ المنظمات الإجرامية ومظالم السنّة في العراق والحرب السورية، لکن ھناك عوامل أخرى قد برزت ومن الأرجح أن تقلّص من فرصه بالعودة بشكل منتصر كما فعل بين العامَين 2013  و 2014. وإذا ومتى استعاد تنظيم «الدولة الإسلامية» الأراضي، ستكون هذه على الأرجح شبيهةً بأرخبيل من المعاقل أكثر من شُبهها لمساحات واسعة من الأراضي التي سيطر التنظيم عليها سابقاً بسرعة كبيرة.
ومن بين الأسباب الكامنة وراء هذا التقييد استبعاد أن تشهد المنطقة تكراراً لتعبئة شاملة للمقاتلين الأجانب كما حصل بين العامَين 2012  و 2015. وعلى الرغم من أنّ الجهاديين سيستمرّون في محاولتهم التسلّل إلى العراق وسوريا، إلّا أنّ أعدادهم ستكون قليلة وليست هائلة نظراً للأنظمة القانونية الجديدة التي طبّقتها الحكومات المختلفة لمحاربة مثل هذا التجنيد، والإجراءات الصارمة المتواصلة التي تتّبعها تركيا ضد حركة المقاتلين الأجانب على أراضيها. وبالتالي، سيتمتّع تنظيم «الدولة الإسلامية» بقوة بشرية محتملة أقلّ حجماً بكثير للمساعدة في إعادة بناء هيكل حوكمته أو عملها كمزودة الذخيرة لمدافعه.
بالإضافة إلى ذلك، إنّ «قوات الحشد الشعبي» في العراق ومجموعة الميليشيات الشيعية المحلية والأجنبية في سوريا، لا سيما تلك المصطفة مع إيران، لن تسمح بجهود شاملة لإعادة بناء تنظيم «الدولة الإسلامية». ومنذ تحرير الموصل، عمدت بعض وحدات ميليشيا«قوات الحشد الشعبي» إلى التعويض على هذا الصعيد، ليس من خلال قمع أي نشاط مرتبط بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» فحسب، بل أيضاً من خلال اتخاذ إجراءات ضدّ المجتمعات السنّية التي ليس لها علاقة بها. ومن المفارقات أن مثل هذه الأعمال من المرجح أن تؤسس قاعدة تجنيد مستقبلية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، لا سيّما أنّه لم يبق للمجتمع السنّي سوى القليل من بدائل القيادة المحلّية بعد نصف عقد من حملات تنظيم «الدولة الإسلامية» ضدّ شخصيّات «الصحوة» السابقة وغيرها من العناصر السياسية والمتمردة السنية. ومع ذلك، فإن النفوذ الإيراني المتزايد والانضباط الأكبر في صفوف «قوات الحشد الشعبي» يعني أنّ أي بروز جديد لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» قد يتضمّن جيوباً أصغر بكثير من الأراضي، ويستدعي ردّاً عسكرياً سريعاً، مما يجعل من الصعب تحقيق أي مكاسب أو توسيعها. وأحد البدائل المحتملة هو إعادة تأسيس شبكة تنظيم «القاعدة في العراق»، ولكن في حين تمّ تناقل هذه الفكرة في الأوساط الجهادية منذ بضع سنوات، إلا أنها لم تأتِ بثمارها بعد.
وأخيراً، فإن الأرض المجاورة في سوريا ليست خصبة لسيطرة الجهاديين كما كانت في السابق. إذ لا يزال نظام الأسد و«قوّات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد تستولي على الأراضي، ولن تقوم الجماعات الإسلامية السنّية التي أفسحت المجال لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» بين نيسان/أبريل 2013 وكانون الثاني/يناير 2014 (من بينها «جبهة النصرة»، التي كانت مرتبطة بـ تنظيم «القاعدة» في ذلك الوقت) بتكرار ذلك. ففي الواقع، كان ردّ الفعل السنّي ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا أكثر حزماً مما كان عليه في العراق بعد حركة «الصحوة». وباختصار، سيواجه تنظيم «الدولة الإسلامية» صعوبة أكبر بكثير في تسخير الأطراف الفاعلة السورية السنية لمصلحته اليوم أكثر من قبل عندما احتلّ الرقة وأجزاء أخرى من البلاد عام 2014.
المرحلة القادمة
نظراً إلى هذه العوامل، من غير المرجح أن يتكرّر السيناريو الذي حصل بين كانون الأوّل/ديسمبر 2011 وحزيران/تمّوز 2014، على الأقل ليس بنفس النطاق أو الوتيرة. وعلى الرغم من أنّ بعض الظروف والمشاكل الهيكلية الكامنة التي أدت إلى إعادة بروز التنظيم لا تزال قائمةً، إلّا أنّه يجب الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الأساسية أيضاً. وبطبيعة الحال، سيكون من الغباء اعتبار تنظيم «الدولة الإسلامية» خارج المعادلة، وذلك لأنّ الجماعة هي أقوى اليوم مما كانت عليه عقب "هزيمتها" الأولى في عام 2009. ومع ذلك، فإن القمع الدولي للمحاربين الأجانب، واليقظة الأكبر بين الأعداء المحلّيين لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، والبيئة المتغيرة في العراق وسوريا، تشير كلها إلى أنّ الجماعة قد لا تكون قادرة على فرض نفسها بالامتداد والسرعة نفسهما كما فعلت في عام 2014.
وبالتالي، يتعيّن على الولايات المتحدة وحلفائها التركيز على الفهم الكلّي لهذا السياق المتغيّر تماماً، وليس على إعادة خوض المعركة السابقة. ويُعتبر تعزيز قوّات الأمن العراقية خطوة أولى مفيدة بشكل خاص لتجنب تكرار الأخطاء السابقة والحدّ من الدور الذي تؤدّيه الميليشيات المدعومة من إيران في مستقبل العراق. ومن شأن هذه المقاربة أن تُخفف من العبء على القوّات الأمريكية، مما سيسمح لها بالتالي بالتركيز أكثر على كيفية التأثير على الأحداث على الأرض في سوريا على الرغم من غياب علاقات أمريكية مع نظام الأسد. وعلى المدى الأطول، لا يوجد علاج سريع لتهديد تنظيم «الدولة الإسلامية» في أي من البلدَين. ومع ذلك، على الولايات المتحدة العمل مع الشركاء المحلّيين والدوليين على المهمّة الأساسية القاضية بحلّ المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والدينية الكامنة التي يستغلّها تنظيم «الدولة الإسلامية» والجماعات الجهادية الأخرى.       

هارون زيلين هو زميل "ريتشارد بورو" في معهد واشنطن.

استراتيجية ترامب للأمن القومي: أهي عودةٌ إلى القرن التاسع عشر؟

استراتيجية ترامب للأمن القومي: أهي عودةٌ إلى القرن التاسع عشر؟
المرصد السياسي 2904

استراتيجية ترامب للأمن القومي: أهي عودةٌ إلى القرن التاسع عشر؟

 19 كانون الأول/ديسمبر 2017
من خلال استخدام نهج جيوستراتيجي يدمج الخطابات القديمة مع الوضع الراهن، يبدو أن "استراتيجية الأمن القومي" التي أطلقها الرئيس ترامب لتوّه تثير تساؤلات كثيرة تضاهي بعددها الأجوبة التي تُوفرها حول كيفية قيادة إدارته للسياسة الخارجية. فـ "استراتيجية الأمن القومي" الجديدة تُضيف نظرةً عالميةً - تعود إلى القرن التاسع عشر أكثر منها إلى القرن العشرين - على سياساتٍ تُشبه كثيراً ما كانت الولايات المتحدة تقوم به منذ عام 1940، إنّما مع التشديد على الصحة الاقتصادية والمنافسة والقوة العسكرية الأمريكية أكثر من الإدارات السابقة. والخبر السّارّ هو أن هذه النظرة تتفادى الانعزالية، في حين يبدو أنها تصحح بعض الشوائب وتُضيء بعض نقاط الغموض في السياسة الخارجية الحديثة للولايات المتحدة، سواء من خلال التشديد على المخاطر المتأتية من الصين وروسيا، أو عدم التشديد على "فعل الخير" العالمي، أو رفض فكرة أن الانتصار العالمي للقيم الليبرالية هو أمرٌ لا مفر منه.
ومع ذلك، لم تستطع "استراتيجية الأمن القومي" الإجابة على سؤاليْن أساسييْن هما: هل هناك نظام عالَمي مشترك  يساهم في تقدّم أكثر من مجرّد المصالح الأمريكية، وهل يستحق هذا النظام الحفاظ عليه والدفاع عنه؟ فمن دون هذا المبدأ التنظيمي الأوّل، تغدو الاستراتيجية الكامنة وراء الوثيقة كخطة قد يؤيّدها بكلّ سرورٍ فلاديمير بوتين - الذي لطالما كان من المعجبين بنظام القرن التاسع عشر.
ما الذي يجعل "استراتيجية الأمن القومي" مختلفة هذه المرة؟
على عكس التكرارات السابقة لـ "استراتيجية الأمن القومي"، ثمة قناعة بأنّ "الاستراتيجية" الجديدة تنبثق عن الرئيس نفسه، مما يجعلها أكثر أهمية بكثير من تلك الوثائق التي طالما صدرت بشكل غير منتظم. فقد أثار ترامب المرشّح والرئيس مراراً وتكراراً التساؤلات حول المضمون الجوهري للانخراط العالمي الأمريكي، وأصبحت بعض وجهات نظره المعروفة رسمية وصريحة في هذه الوثيقة.
وعلى كل استراتيجية للأمن القومي أن تجيب على ثلاثة أسئلة أساسية وهي: ما هي الرؤية المحورية حول الانخراط الأمريكي في العالم؟ وما هي الأدوات والسياسات العامة التي ستُستخدَم لتعزيز هذه الرؤية؟ وكيف يختلف العنصران الأوّلان (إذا كان ذلك ممكناً) عن الوثائق السابقة الخاصة بـ "استراتيجيات الأمن القومي"؟ إن "استراتيجية الأمن القومي" الخاصة بترامب خارجة عن المألوف لدرجة أنّ الإجابة على السؤال الأول ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإجابة على السؤال الأخير.
ويمكن قراءة نظرة الرئيس القومية للغاية مباشرةً في المقدّمة: "إنّ «استراتيجية الأمن القومي» هذه تضع أمريكا أولاً". إلّا أن العديد من وثائق السياسات العامة الماضية اتّسمت بنسخة أخف وطأةً من هذه النبرة القومية ذاتها. وتشير "استراتيجية ترامب للأمن القومي" بوضوح إلى الدور الأمريكي التقليدي، معتبرة أن "قوة أمريكا لا تكمن في المصالح الحيوية الخاصة بالشعب الأمريكي فحسب، بل أيضاً في مصالح أولئك في جميع أنحاء العالم الذين يريدون أن يكونوا شركاء الولايات المتحدة، سعياً لتحقيق مصالح وقيم وتطلّعات مشتركة". فما هي المشكلة في هذه المقاربة؟
وباختصار، تكمن الإجابة في ما امتَنَعَ عن ذكره. فقد أصدرت إدارة أوباما وثيقتيْن مختلفتيْن تماماً حول "استراتيجية الأمن القومي" في عامي 2010 و2015، لكنّها حافظت على اللهجة التالية في كلتيْهما لوصف المصالح الوطنية الأمريكية الأساسية: "نظام دولي قائم على القواعد تقدّمه القيادة الأمريكية لتعزيز السلام والأمن والفرص عبر التعاون الأقوى لمواجهة التحديات العالمية". ولا شيء من هذا القبيل في نسخة ترامب. ويقول مسؤولو الإدارة الأمريكية أن لهجة "التعاون مع المعاملة بالمثل" تشير ضمناً إلى الولاء للنظام العالَمي، لكنّها ليست مساوية له.
وبالتالي، لا تبدو الرؤية التنظيمية لـ "استراتيجية الأمن القومي" الجديدة كنظرة عالمية انعزالية أو دولية، إنما كنظرة عالمية توحي بحقبة "القوى العظمى" في القرن التاسع عشر. فعلى سبيل المثال، تؤكّد هذه الرؤية أن "المنافسة على القوة هي استمرارية أساسية في التاريخ. والفترة الزمنية الحالية ليست مختلفة". فلا يجب تجاهل الدبلوماسية، لكن لا بدّ من إعادة هيكلتها "لخوض المنافسة في البيئة الراهنة واعتناق تفكيرٍ تنافسي" - وهو أمرٌ بعيدٌ كلّ البعد عن الدبلوماسية بصفتها تنظّم وتدير نظاماً عالميّاً تعاونيّاً.
وتبرز طريقة تفكيرٍ توحي أكثر بالعولمة على ما يبدو في أحد الأركان الأساسية الأربعة للوثيقة، وهي "دفع النفوذ الأمريكي قدماً"، ما يدعو إلى الإحتفاء بـ"النفوذ الأمريكي في العالَم كقوة إيجابية... لتحقيق السلام والازدهار وتطوير مجتمعات ناجحة". ومع الإشارة إلى أن العالَم معجبٌ بـ "مبادئ أمريكا"، يَعِد النص بإقامة علاقات شراكة مع "أولئك الذين يشاركوننا تطلعاتنا للحرية والازدهار" ويفيد بأن "الحلفاء والشركاء يشكّلون قوةً كبيرةً للولايات المتحدة". ثم تُقاوم الوثيقة العناصر الصريحة من الاستراتيجية العالمية التي تقدّم بها الرئيسان السابقان. فانتقاداً لإدارة بوش، تتعهد الوثيقة بأن أمريكا "لن تفرض قيمها على الآخرين"، مع التشديد على الإرادة الحرة والمصالح المشتركة بدلاً من ذلك. ثمّ تناهض أحد المواضيع الرئيسية التي تحدّث عنها الرئيس أوباما، وهي الحتمية العالمية للديمقراطية الليبرالية: "ليس هناك تطوّرٍ تاريخي يضمن أن النظام السياسي والاقتصادي الحر لأمريكا سوف يسود تلقائيّاً". وتشير مثل هذه التصريحات إلى أنه حتى المقاطع التي توحي أكثر من غيرها بالعولمة بشكلٍ معلَن تركز على الموضوع الأساسي الخاص بالمنافسة العالمية الداروينية تقريباً.
فعلى سبيل المثال، توضح "استراتيجية الأمن القومي" أن الولايات المتحدة تواجه "ثلاث مجموعات رئيسية من المنافسين - وهي القوتان التعديليتان روسيا والصين، والدولتان المارقتان إيران وكوريا الشمالية، والمنظمات التي تشكّل خطراً عابراً للأوطان، لا سيّما الجماعات الإرهابية الجهادية"، وكلّها "تنافس بنشاط ضد الولايات المتحدة وحلفاءنا وشركاءنا". بالإضافة إلى ذلك، هذه "صراعات سياسية بشكلٍ أساسي بين أولئك الذين يفضّلون الأنظمة القمعية ومَن يفضّلون المجتمعات الحرّة"، مما يجعل العالَم في وضعٍ معلَّق حيث لا يعيش الخصوم في حالة "سلامٍ" أو "حربٍ"، بل في "ميدان المنافسة المستمرة". وعلى الرغم من إقرار ترامب بهذه التهديدات هو اختلافٌ مرحَّب به عن "استراتيجية الأمن القومي" لعام 2015 (والتي، لكي نكون منصفين، تم إصدارها قبل إطلاق كوريا الشمالية الصواريخ البالستية العابرة للقارات وتدخل روسيا في سوريا)، إلّا أنّه يسلّط الضوء على كيفية تصديها للولايات المتحدة، وليس للنظام العالمي الذي تُديره أمريكا.
إن عدم القدرة على إنشاء رابط بين هذين الأمرين تدفع إلى التساؤل حول ما الذي يُلزم هذه الدول على تحدّي واشنطن بهذا الشكل المباشر، بما أنه لا يبدو أن أحداً منها يسعى إلى الهيمنة العالمية الفعلية (باستثناء الصين، وهو موضوع قابل للجدل). والإجابة الواضحة هي أن هذه الدول لا تتحدى الولايات المتحدة بقدر ما تتحدى قيود "النظام الدولي القائم على القواعد الذي تقدّمه القيادة الأمريكية"، وفقاً لما ورد في "استراتيجية الأمن القومي" الخاصة بأوباما. وإذا اعتبرت إدارة ترامب أن هذا النظام غير جدير بالذكر، ناهيك عن التأييد، فقد يتساءل المرء عما يوقف أمريكا وأعداءها من تخفيف حدة المخاطر المحتملة على بعضهما البعض من خلال تقاسم العالَم على غرار "مؤتمر فيينا" عام 1815.
إلى أي مدى قد تتغير السياسة الأمريكية بشكل فعلي؟
إنّ الاستنتاج الأهم الذي يمكن استخلاصه من "استراتيجية الأمن القومي" هذه هو أن إدارة ترامب تُعلن موقفها رسميّاً وتؤيّد أمرين متناقضين على ما يبدو وهما: الرؤية المحورية التي تنحرف إلى حدّ كبير عن التركيز على "النظام العالمي" كالإدارات السابقة، ومجموعة القيم والأعمال المألوفة التي لا بد أن تخدم هذا النظام العالَمي. وإذا كانت الإدارة الأمريكية تلتزم بهذه الاستراتيجية ككل، فستتماشى مقاربتها مع السياسة التقليدية التي اتُبعت على مدى السنوات السبعين الماضية (وأيدتها بشكل مدهش نسبة كبيرة من الأمريكيين في استطلاع للرأي أجراه مؤخراً "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية")، ولكن من دون أي حجة ملزمة وشاملة تدفع إلى القيام بذلك خارج نطاق "المصالح الأمريكية". حتى أن أسماء الأركان الأساسية في "استراتيجية الأمن القومي" يرتجع صداها قبل محاولة تجريد جهود هذه الاستراتيجية من الشعور القومي: "حماية الشعب الأمريكي وأرض الوطن ونمط العيش الأمريكي"؛ و"تعزيز الازدهار الأمريكي"؛ و"الحفاظ على السلام عبر القوة"؛ و"دفع النفوذ الأمريكي قدماً". كما أن اللائحة الطويلة من الأعمال المحددة التي تدعم هذه الأركان مألوفة أكثر، بالإضافة إلى التركيز الأكبر على الجوانب العسكرية والاقتصادية فضلاً عن ذكر التهديدات الصاعدة كالسيبرانية منها بكثافة أكبر.
ومن الجدير بالذكر أن العديد من المجالات قد جرت تغطيتها بشكلٍ سريعٍ جدّاً. فلم يستحق الشرق الأوسط إلا جزءاً واحداً قصيراً جُمعت فيه عناصر التوسع الإيراني وانهيار الدولة والإيديولوجيا الجهادية والركود الاجتماعي والاقتصادي والخصومات الإقليمية كمولّدات لعدم الاستقرار، من دون تقديم أي علاج ناجع. بالإضافة إلى ذلك، تصرف الوثيقة النظر عن مقاربتيْ بوش وأوباما (التحول الديمقراطي وفك الارتباط، على التوالي) في حين تقدم القليل كبديل عنهما، فلا تعِد إلّا بأن تكون "واقعية" فيما يخص توقعات الولايات المتحدة بشأن المنطقة - مما يشكّل نداءً خافتاً للتأهب.
وعلى أقل تقدير، تولّد "استراتيجية الأمن القومي" وردود الفعل المحلية الأولية إزاءها نقاشاً تشتد الحاجة إليه حول الحد الذي يجب أن تحافظ عليه الولايات المتحدة من النظام العالمي التقليدي. على سبيل المثال، كتب ديفيد فروم في مجلة "ذي أتلانتيك" مقالةً نقدية دولوية كلاسيكية، وأشار بشكلٍ خاص إلى افتقار الوثيقة للتشديد على القيم الديمقراطية الخاصة بـ"القوة الناعمة"، التي يراها محورية للنفوذ الأمريكي. غير أن مبالغة إدارة بوش في التشديد على هذه القيم في أماكن كالعراق وأفغانستان كلّفت أمريكا ثمناً باهظاً - وهي مشكلة لم يعبّر عنها ترامب فحسب، بل أيضاً كثيرون من الجناح الدولي المناهض لترامب عموماً. حتى أن الرئيس أوباما تجنّب بناء الأمّة (بصرف النظر عن الجهود الفاترة التي بُذلت، والمتراصفة مع الطفرة الأفغانية) ولم يفعل الكثير لنشر القيم الأمريكية خارج ميدان الخطاب. ويستشهد فروم أيضاً بعدم شعبية ترامب كنتيجة التخلي عن نظامٍ مبني على القيم. لكنّ نقداً كهذا يفترض أن الدور العالمي لأمريكا يقتصر على الشعبية - وهي فكرة سيتصدى لها العديد من المراقبين بعيداً عن الرئيس الأمريكي.
وفي النهاية، لا يمكن إطلاق أحكام على هذه "الاستراتيجية للأمن القومي" إلا من خلال مراقبة درجة تقيّد الرئيس الأمريكي وكبار مستشاريه بها ككل. فإذا نفّذوها بحذافيرها، سيختبر العالَم نموذجاً خاصّاً بترامب فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية التقليدية. ولكن إذا أرادوا الانحراف عن تلك السياسة، فإن الوثيقة توفر ما يكفي من التبريرات لإطلاق مقاربةٍ مختلفة جدّاً للعالَم، كما أشار الرئيس بنفسه على الأقل عند إشادته ببوتين في خطابه الذي أعلن فيه عن "استراتيجية الأمن القومي".

جيمس جيفري هو زميل متميز في زمالة "فيليب سولوندز" في معهد واشنطن وسفير الولايات المتحدة السابق لدى تركيا والعراق وألبانيا.

Thursday, August 17, 2017

التركيز على أهداف واضحة لاحتواء إيران في العراق وسوريا

التركيز على أهداف واضحة لاحتواء إيران في العراق وسوريا

صفحات رأي ومقالات

التركيز على أهداف واضحة لاحتواء إيران في العراق وسوريا

 
"سايفر بريف"
12 آب/أغسطس، 2017
وسط تحرير الموصل من قبضة "داعش" والغزو الوشيك لعاصمة "الخلافة"، الرقة، تقف الولايات المتحدة عند نقطة مفصلية في الشرق الأوسط. لكنها لم تضع بعد إستراتيجية متماسكة، كما ذكر إميل سيمبسون في مقالة اتسمت بالذكاء في مجلة "فورين بوليسي" بعنوان "هكذا بدأت الحروب الكبرى" ومحررو "واشنطن بوست".
وتتمثل المشكلة الكبرى التي تواجهها الإدارة الأمريكية في أن إيران مستعدة للسيطرة على العراق وسوريا، وبالتالي إنشاء ممر يمتد من طهران إلى جنوب لبنان في أعقاب هزيمة "داعش". فطهران، بفضل ميليشياتها الشيعية وترسانتها الصاروخية والدعم الروسي المحدود على الأقل، تسعى إلى زعزعة أمن المنطقة، مهددةً عبر هذا الممر كلًا من الأردن وإسرائيل وتركيا، وفي نهاية المطاف دول الخليج. وقد التزمت إدارة ترامب باحتواء هذا التهديد خلال قمة الرياض في أيار/مايو، لكنها لم تفلح في إيجاد الطريقة المناسبة حتى الآن.
ويكمن أحد الأسباب خلف ذلك في أن الولايات المتحدة لا تزال تصب تركيزها على دحر تنظيم "داعش". غير أن رابطًا يجمع بين هذا الأخير وإيران: فدعم طهران لسياسات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والرئيس السوري بشار الأسد العربية العنيفة المعادية للسنّة بين 2011 و2014 سمح بصعود "داعش" في المقام الأول. وفي حال باء النظام الأمني الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي فشل آنذاك في كبح إيران، بالفشل مرة جديدة، سينخرط ملايين العرب السنّة في العراق وسوريا على الأرجح في صفوف بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة مجددًا.
وقد ساهمت الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة مؤخرًا لمقاومة الأسد وحلفائه الإيرانيين عسكريًا، إلى جانب وقف إطلاق النار الروسي-الأمريكي المحدود في جنوب غرب سوريا في إرساء الاستقرار نوعًا ما في ساحة المعركة السورية المعقدة، لكن هذه الخطوات لا ترتقي إلى مستوى إستراتيجية، لا سيما أن المسؤولين الأمريكيين يواصلون التأكيد أن بلادهم تتدخل في سوريا بهدف محاربة "داعش" فحسب.
وحتى إن أرادت الولايات المتحدة تجنب اعتماد إستراتيجية مماثلة، يبدو أن الوقت بدأ ينفذ. فهل ستترك الولايات المتحدة المناطق التي تعمل فيها القوات الأمريكية إلى جانب حلفائها السوريين لبشار الأسد الحقود والانتقامي ما إن يتمّ تدمير "دولة" "داعش"؟ وهل ستسحب قواتها عندها من العراق نظرًا إلى التدهور الأمني الذي شهدته البلاد بعد انسحاب القوات الأمريكية عام 2011؟ وهل سيقبل حلفاء الولايات المتحدة - تركيا والأردن وإسرائيل - بوجود عناصر إيرانية ومن "حزب الله" على حدودها؟ بالتالي، ما من خيار أمام واشنطن إلا وضع إستراتيجية خاصة بإيران، والإجابة بسرعة عن هذه الأسئلة.
غير أن وضع إستراتيجية مماثلة ليس بالمهمة السهلة، إذ إن العواقب مخيفة: سعي الإدارة خلف أهداف قد تكون متضاربة - محاربة "داعش" واحتواء إيران؛ سابقة إدارة أوباما في وضع احتواء إيران خارج نطاق البحث؛ ودور روسيا المبهم كحليف شبه إيراني.
لكن ناهيك عن هذه المشاكل المحددة، تعاني الولايات المتحدة مشاكل مزمنة لجهة وضع إستراتيجية، حيث أنها غالبًا ما تتداخل مع بعض الأهداف الأساسية - مثلًا، برز في "إعلان الرؤية الإستراتيجية المشتركة السعودية-الأمريكية" في أيار/مايو عبارة "احتواء نفوذ إيران المؤذي" - من دون متابعة. أما المشكلة الأخرى، فهي رد فعل مفاجئ حيال المشاكل الأمنية يقوم على مبدأ "ضرورة إصلاح الشرق الأوسط بكامله"، ظهر مع إدارة بوش في العراق وخطاب أوباما في القاهرة عام 2009. وحتمًا، تنبع مشاكل المنطقة الأمنية من عوامل سياسية واقتصادية وثقافية كامنة، لكن الولايات المتحدة فهمت منذ 2001 أنه لا يمكنها بسهولة إيجاد حل لاضطرابات هيكلية مماثلة، إنما عليها معالجة مظاهرها.
ولتحقيق هذه الغاية، على الولايات المتحدة العودة إلى "عقيدة باول" التي ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي، وهي مجموعة مبادئ وضعها وزير الدفاع آنذاك كاسبر واينبرجر والجنرال كولن باول. وفي حين ترتبط العقيدة بالتزامات واسعة النطاق للقوات، يتناسب منطقها مع أي مشكلة سياسية-عسكرية، بما فيه عندما يكون عديد القوات محدودًا ويتولى الاقتتال البري شركاء محليون (كما حصل في البوسنة وكوسوفو).
ويمكن تطبيق أول مبدأ في العقيدة الذي ينص على ضمان "المصالح الحيوية التي هي على المحك" في سوريا. فتوسّع إيران قد يؤدي إلى اندلاع صراع مع حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين، الدول السنّية في المنطقة وتركيا وإسرائيل. ومن شأن صراع مماثل، كما حصل في سبعينيات القرن الماضي، أن يوجه صفعة إلى صادرات المنطقة من النفط التي لا تزال ضرورية للاقتصاد العالمي. كما أن توسّع إيران يطرح تهديدًا لبقاء إسرائيل ويقوّض سيادة الدولة في أماكن أخرى من خلال وكلاء محليين لديهم ولاء حيال طهران يفوق ولاءهم لحكوماتهم (نموذج "حزب الله" في لبنان). علاوةً على ذلك، يدفع انعدام الاستقرار عمومًا في الشرق الأوسط بالجهات الفاعلة السيئة إلى امتلاك أسلحة نووية. أخيرًا، تسببت الاضطرابات المستمرة بتشريد الملايين، ما زعزع  أمن الدول المجاورة والاتحاد الأوروبي.
نظرًا إلى أن الوضع يتماشى بالتالي مع معايير المصالح الحيوية المحددة في العقيدة، كيف يمكن تطويرها؟ تنص العقيدة على وجوب أن تضع الولايات المتحدة "أهدافًا سياسية وعسكرية واضحة" من أجل تحقيق "النصر". غير أنه ليس من الضرورة أن يكون هذا النصر "شاملًا"؛ فقد حدّده باول بعبارات محدودة خلال حرب الخليج - ألا وهو تحرير الكويت وليس الإطاحة بصدام حسين.   
وبما يشبه الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي للتصدي للسوفيات في أفغانستان وإيران في الخليج، يمكن أن يتمثل مثل هذا الهدف الأمريكي المحدود في سوريا والعراق ما بعد "داعش" في التضييق على التوسّع الإيراني واحتوائه مع حماية المعتدلين وجماعاتهم، بدلًا من تدمير إيران أو الإطاحة بالأسد.   
وفي العراق، من شأن الولايات المتحدة أن تدعم حكومة العبادي وتقود إعادة الإعمار الدولية وتحافظ على علاقة مميزة مع كردستان من دون تشجيعها على الاستقلال وكذلك دمج العراق في النظام المالي والطاقوي العالمي. كما يمكن للولايات المتحدة أن تبقي فرقة عسكرية صغيرة في البلاد لاقتلاع بقايا "داعش" وتطوير قدرات الجيش العراقي والإشارة أيضًا إلى الالتزام الأمريكي. ولن يتمثل الهدف الإستراتيجي في استحداث "برلين غربية" جديدة بل "فنلندا". ولن يكون العراق تابعًا بالكامل لأي من المعسكرين الأمريكي أو الإيراني، لكن مستقلًا بما يكفي لردع إيران عن بسط نفوذها انطلاقًا من العراق كما تفعل في لبنان. ومن شأن مسار مماثل أن يثير مخاوف العراقيين من كافة الطوائف والإثنيات حيال التجاوزات الإيرانية في العراق. وفي حال لم يتمّ تطبيق هذا السيناريو، سيكون البديل روابط أمنية وطيدة تجمع الولايات المتحدة بإقليم كردستان المستقل شمال العراق، الموالي تقليديًا للغرب.         
أما في سوريا، فالصورة أكثر تعقيدًا ومليئة بالتحديات، لكن يمكن للولايات المتحدة أن تطبق هناك أيضًا مبادئ العقيدة الرئيسية من خلال حماية المكاسب المنجزة بشق النفس ضد "داعش" والاستفادة منها لحض أطراف معنية رئيسية (الأسد والمعارضة العربية وأكراد سوريا والإيرانيين والروس) على قبول الحد من التصعيد المستمر إلى حين التوصل إلى ترتيب سياسي أكثر استدامة. وهذا يعني مواصلة العمل مع اللاعبين المحليين من العرب والأكراد على السواء لطرد "داعش" من الرقة وغيرها من المناطق وتوفير الدعم الإنساني وفي مجال إعادة الإعمار إلى المجتمعات المحررة كي تتمكن من البدء بإعادة بناء حياتها المدمرة وربما حض المشردين على العودة. لكن لا بدّ من تحقيق هذا الأمر من خلال الردع الموثوق في وجه النظام والهجمات الروسية والإيرانية، أي ما يشبه ما فعلته إدارة ترامب ردًا على استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية ومضايقة القوات التي تحارب "داعش" جنوب سوريا.    
ولا بدّ من أن يكون الهدف وراء أي ردّ عسكري أمريكي على هذه الانتهاكات واضحًا: حماية المناطق المحررة حديثًا وأفراد المجتمع الدولي الذين يقدمون المساعدة فيها، وليس إطلاق أي عمليات هجومية مستقبلية ضد النظام أو المصالح الروسية في سوريا. لا شك في أن حماية المناطق جنوب سوريا والرقة وفي الشمال لن تساعد المدنيين فحسب، بل ستقوّض أيضًا جهود إيران الرامية على توسيع رقعة نفوذها من طهران إلى بيروت لتشكّل نقطة ضغط دعمًا لمزيد من المفاوضات السياسية الجدية.    
وتماشيًا مع تشديد العقيدة على تسخير "كافة الموارد الضرورية للفوز"، لا بدّ من أن تستخدم هذه الإستراتيجية النفوذ الدبلوماسي المنقطع النظير والتفوق العسكري الحاسم، وبالتالي "الهيمنة في مجال التصعيد" لكل من القوات الأمريكية في المنطقة والشركاء على الأرض والتحالف الدولي ضد "داعش" وتركيا والدول العربية السنّية وكذلك إسرائيل.
كما تتماشى الإستراتيجية مع مبدأ العقيدة التالي "التعهّد فقط بالتزامات يمكنها اكتساب دعم الشعب الأمريكي والكونغرس"، نظرًا إلى التكاليف المحدودة بالنسبة على الولايات المتحدة والتهديدات الخطيرة للغاية التي قد تواجهها الإستراتيجية.
أخيرًا، تتوافق هذه الإستراتيجية مع مبدأ العقيدة الأخير: اللجوء إلى القوات الأمريكية "كملاذ أخير فقط". فقد سبق أن حاولت الولايات المتحدة اللجوء إلى "ملاذات" أخرى عبر إستراتيجية أوباما الرامية إلى الاستفادة من الاتفاق النووي الإيراني ودبلوماسية وزير الخارجية آنذاك جون كيري المكوكية بشأن سوريا من أجل كبح إيران عبر استيعاب المصالح الإيرانية والروسية من دون اللجوء إلى القوة. غير أن هذه الإستراتيجية باءت بالفشل.   
ونتيجةً لذلك، تحتاج الإدارة بشكل ملح وطارئ إلى مقاربة شاملة إزاء إيران، تتركز في سوريا والعراق، بما في ذلك الوسائل العسكرية، من أجل استعادة الاستقرار في المنطقة وإلا ستبرز كوارث جديدة تغذي التطرف وربما برامج أسلحة دمار شامل جديدة.  
جيمس جيفري هو زميل متميز في زمالة "فيليب سولوندز" في معهد واشنطن وسفير الولايات المتحدة السابق لدى تركيا والعراق وألبانيا. وائل الزيات هو الرئيس التنفيذي لـ "مؤسسة إمغاج"، و] شغل سابقاً منصب مستشار أقدم للشؤون السياسية للمندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة سامانثا باور، ومنسق الاتصال في وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون سوريا.

جيمس جيفري

جيمس جيفري هو زميل متميز في زمالة "فيليب سولونتز"

وائل الزيات

وائل الزيات هو الرئيس التنفيذي لـ "مؤسسة إمغاج"، وقد شغل سابقاً منصب مستشار أقدم للشؤون السياسية للمندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة سامانثا باور، ومنسق الاتصال في وزارة ال

Thursday, March 9, 2017

المجتمع الشيعي اللبناني ومظاهر الانهيار الداخلي

المجتمع الشيعي اللبناني ومظاهر الانهيار الداخلي

المجتمع الشيعي اللبناني ومظاهر الانهيار الداخلي


متاح أيضاً في English
لا يخفى على أحد كمية الحماسة الدينية التي رافقت شيعة لبنان عندما أطلق أمين عام حزب الله حسن نصر الله عام 2013 رحلة المضي إلى معركة الدفاع عن نظام الرئيس السوري بشار الأسد. آلاف المقاتلين معبؤون بأوهام الانتصارات السريعة عبروا الحدود اللبنانية نحو الأراضي السورية، ظناً منهم أنهم سيلحقون بالعدو أعتى أنواع الهزائم، إلا أن مرور السنوات حَوّل طموحهم إلى واقع تتزاحم فيه النتائج السوداء للحرب. نزعت الحرب أرواح آلاف الشبان الشيعة. كانت سنوات المشاركة في الصراع كافية لكسر أوهام مركبة عن الحياة والموت والتضحية بالنفس. لعبت الآلة الإعلامية الشيعية دوراً في دفع آلاف الجماهير لمنح الحرب السورية سمات القداسة بالاستناد إلى رهبة الخوف من الآخر. ومنذ اشتعال الحرب في سوريا هيمنت فكرة الملحمة الحسينية ومظلومية الشيعة عبر التاريخ وتم الترويج لها بأسلوب هستيري، مما خلق حالة غليان ديني والحاجة إلى الثأر. ولكن الفكرة نفسها ما لبث أن تفككت وتحولت إلى صدمة. وتحت وطأة هستيريا الحرب اجتاح شعور فائض القوة وحرية التصرف للنيّل من أي خطر ولم يتوانى هذا الشعور ولو للحظة عن إنتاج سلوكيات جماعية باتت كفيلة كي تدمر الصيغة المعهودة لحياة الشيعة في مناطقهم.
وقد سعت الدعاية الإعلامية لهيكلة المجتمع الشيعي على أنه كيان متآلفة مع نفسه، إلا أن الأكاذيب المروّج لها إعلاميا عن تركيبة المجتمع المتماسك ليست صحيحة. يعيش جزء من شيعة لبنان أتعس مراحلهم لما يشهدوه من انقلاب يلامس منظومتهم الأخلاقية من جهة، وتوسعت من جهة أخرى الفروقات الطبقية فيما بينهم بشكل ملحوظ وانكمشت أحزمة البؤس الشيعية على نفسها، وتضخمت نسبة الشبان العاطلين عن العمل.
ليس كل شيعة لبنان، ينتمون إلى الحزبيين الرئيسين حزب الله وحركة أمل. وعلى الرغم من غياب الإحصاءات واستطلاعات الرأي المخصصة لدراسة ميول المواطنين اللبنانيين الحزبية، إلا أن جولة انتخابات البلديات التي جرت بين شهريّ نيسان وأيار من عام 2016 أثبتت حجم الهوة والضحالة بين تطلعات المجتمع الشيعي من جهة وبين ممثليهم السياسيين من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال، شكلت العائلات والعشائر في جنوب لبنان والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية لوائح انتخابية تنافس الحزبين الشيعيين الرئيسين.
ومن المؤكد أن حزب الله وحركة أمل شعرا بثقل الإشارات السلبية القادمة من المنافسة الشرسة، مما دفعهما إلى تشكيل لوائح مشتركة في العديد من الانتخابات المحلية. وبقدر المستطاع، حاول الحزبان إخفاء الكراهية الموجودة بينهما.
ففي مدينة بعلبك المجاورة للحدود السورية، والتي يصفها إعلام حزب الله بأنها ارض الشهداء، تلقى الأخير ضربة مؤلمة بعد تصويت 40% من الناخبين للائحة "بعلبك مدينتي" التي ترأسها الناشط السياسي والخصم اللدود غالب ياغي.
ودائماً ما يشتكي أبناء بعلبك من المظاهر المخلة بالأمن التي تعاظمت في السنوات الأخيرة، وكثيراً ما ارتفعت الأصوات المنددة بالفلتان الأمني وغياب الدولة وانعدام المشاريع الإنمائية وسيادة العقلية الميليشياوية.

وحالياً يسعى حزب الله بالتعاون مع القوى الأمنية الرسمية في لبنان إلى حل مشكلة آلاف الأشخاص الخارجين عن القانون. فمثلاً، أكدت الوسائل الإعلامية اللبنانية حصول لقاء جمع وفد من حزب الله مع وزير العدل اللبناني سليم جريصاتي بهدف البحث في أزمة المتهمين بارتكاب جرائم متنوعة. وأشارت المصادر في بيروت إلى أن أغلب الخارجين عن القانون المطالب بالعفو عنهم ينتمون إلى الطائفة الشيعية. وبتاريخ 2 شباط 2017 أكد النائب عن كتلة حزب الله في البرلمان اللبناني علي المقداد لموقع "المدن" اللبناني بأن التعاون جارٍ مع الأجهزة الأمنية الرسمية لإيجاد مخرج قانوني لهؤلاء المطلوبين من قبل الجهات الأمنية والذين يبلغ عددهم 37 ألف.
إن الفقراء والعاطلون عن العمل والخارجون عن القانون والمجرمون ومدمنو المخدرات والعصابات على مختلف أنواعها والمتضرِّرون من انحسار الطبقة الوسطى وتمركز رؤوس الأموال بيد الحزبين، يشكلون حقل عنف مشحون تعجز الزعامة الشيعية لإصلاح نفسها وذلك لتجنب حدوث انهيار.
ففي شهر آب من عام 2016 حاول نصر الله إلقاء تبيعات الفوضى الحاصلة في التجمعات الشيعية على امتداد الخريطة اللبنانية فوق أكتاف الفاعلين المحليين، وذلك حين تملص من مسؤوليته تجاه ما وصلت إليه الطائفة من واقع مزري ومعقد. وقد طلب نصر الله خلال لقاءه مع أبناء بعلبك أن يعملوا بكثافة على تسليم المطلوبين بمذكرات بحث وتحرٍ إلى الأجهزة الأمنية. ليس شيعة بعلبك وحدهم من يسلكون طريق فوضى من الصعب توقُع أو تنبؤ ما تخفيه، فسكان ضاحية بيروت الجنوبية هم أيضا يهيئون أنفسهم لتقبل واقعهم الجديد الذي تكلل بنشوء شبكة تضم مئات العصابات والتي استطاعت التغلغل بينهم.
في مختلف المناطق اللبنانية تنتشر العصابات التي تعمل على تأمين المستلزمات الضرورية للسكان. إلا أنها داخل التجمعات الشيعية، تشكل تلك العصابة تهديدا رئيسيا للسلام والأمن المحلي. وتسعى العصابات المتمرسة في ميادين التجارة غير القانونية إلى فرض هيبتها بأسلوب يوازي سلطة الأجهزة الرسمية والحزبية، وأدى غياب المشاريع الإنمائية للدولة اللبنانية وعجزها عن توفير خدمات ضرورية للمواطنين كالمياه والكهرباء وغيرها، إلى نشوء عصابات توفر للسكان مجموع خدمات مقابل مبالغ مالية باهظة.
إن الضاحية الجنوبية تمثل أكبر تجمع سكاني ضمن نطاق العاصمة بيروت والذي ينتمي بغالبيته العظمى إلى الشيعة. في عام 2016 شهدت الضاحية 11 جريمة قتل وقد احتوت النسبة الأكبر من تلك الأحداث على علاقة مبطنة مع الثأر وتهريب المخدرات.  وفي الأعوام المنصرمة شهدت الضاحية أيضا اعتداءات متكررة على البنوك بهدف سرقتها، بالإضافة إلى إطلاق الأعيرة النارية والقذائف الحربية بشكل عشوائي وذلك خلال الاحتفالات والمناسبات الحزبية وأثناء تشييع المقاتلين.
وفي 8 شباط 2017، عرضت قناة "الجديد" اللبنانية تقريراً مصوراً، أظهرت فيه قيام أحد العصابات التي تفرض الخوة على المحال التجارية في الضاحية بإحراق مولدات كهربائية مما أدى إلى اشتعال مبنى سكني. ووصفت "الجديد" تصرف العصابة بالإرهابي، وتناول التقرير مناشدة أبناء الضاحية «القوى الأمنية لاتخاذ قرار حاسم وإنهاء حالة التمرد على القانون والقضاء على العصابات».
ولم تمضي أيام على تلك الحادثة، حتى أقدمت مافيا مجهولة على إحراق مولدات كهربائية في منطقة أخرى في ضاحية بيروت الجنوبية فسارع المسؤولون إلى الالتفاف على الحدث والتكتم عليه.
كما وسُربَ في 14 شباط 2017 فيديو لمجموعة شبان شيعة من مدينة صور في جنوب لبنان، يوثق الفيديو لحظة قيام عشرات الأشخاص بضرب قائد شرطة بلدية صور شادي نجدي، وكشفت التقارير أن الشبان ممتعضون من نجدي لأنه خطط وأشرف على عملية مداهمة عدة أحياء في المدينة.
إن تلك الظواهر بمثابة كيان غريب يَصعُب التأقلم معه، لأنه يتحرك خارج المألوف، ويتجذر عميقاً في البنية كلما سنحت له الفرصة. حتى أن حزب الله يُخضع جموح العصابات عبر إجبارها على توقيع اتفاقيات شكلية يضمن من خلالها ألا تقوم عصابة بممارسة العنف ضد عصابة أخرى.
ولكن من الصعب فصل العصابات عن السلطة الحاكمة لأنهم بنوا فيما بينهم تفاهمات سرية، وشكلوا جسما واحدا يؤمن المصالح المشتركة. إلا أن سلسلة الجرائم المرتكبة من قبل العصابات وتفاقم انزعاج الناس الذين يُطالبون الأحزاب بتحمل مسؤولياتهم برفع الغطاء عن مفتعلي الشغب والمخلين بالأمن يُثبت حصول انقلاب خطير في المعادلة عبر انجرار القوى المسيطرة أكانت الحزبية أم المافياوية للفتك ببعضها البعض.
إن إلى جانب قسوة الخطابات السياسية والدينية المملؤة بروح العسكرة والشعبوية والتي تم الترويج لها لمواكبة الحدث السوري، فقد احتل التهميش وعزل فئات اجتماعية لسنوات مديدة دوراً مهماً لإنتاج العنف ومضاعفته والتحكم به، عبر لجوء السلطة الشيعية إلى استثمارها وفق آليات مدروسة ودقيقة الأهداف للسيطرة على نماذج الناس الفكرية والسلوكية.
إن إقصاء جزء كبير من الشيعة داخل مجتمعاتهم ونسيان أوجاعهم وهموم مناطقهم المتهالكة، حوّل بعضهم إلى سلطة تمارس الفوقية والتسلط على من هم أضعف منهم.

منذ لحظة نشؤه، رسم حزب الله حدود متينة لخطابه السياسي والأيديولوجي، وربطه بالصراعات الإقليمية والمحلية. بينما حركة أمل ضبطت نفسها في لعبة السلطة الرسمية والمحاصصة السياسية مع بقية الأحزاب، لذلك بقيت الشؤون الحياتية لشرائح ضخمة من المجتمع الشيعي خارج الخطابات الحماسية. وإلى يومنا هذا لم يجد عشرات الآلاف من الأشخاص أي مساحة يُعبرون فيها عن وجودهم ذلك أنهم كانوا احدى أدوات تمويه السلوك السياسي المهترئ. ومؤخراً بدأ تصدع العلاقة بين الزعامة والحاشية يجر الشيعة ولو ببطء نحو مواجهة فيما بينهم ومع السنوات سيزداد الشرخ بين رأس الهرم وقعره.
من الصعب على الأفراد فهم خلفية تصرفاتها وأفعالهم واندفاعهم نحو تحقيق اللا استقرار داخل البيئة الشيعية. فهم يمثلون الأرضية الأولى للاعتراض والمشاكسة واستسهال الفوضى بوجه أي سلطة. يجب على الدولة اللبنانية أن تولى اهتماما أكبر بالمواطنين بعد أن عجزت الأحزاب الشيعية عن ضبط الأوضاع أو إصلاحها، فهي لن تتمكن من الهروب بعيدا لأن الهرم عندما يتفكك، يسقط بكامل مكوناته على الأرض. وأخيرا، لا يتوقع شيعة لبنان تحقيق نهاية سعيدة بل مزيدا من الفوضى.
حلا نصر الله

Thursday, January 26, 2017

إيران تعيّن عميل محنك من «فيلق القدس» سفيراً في العراق

إيران تعيّن عميل محنك من «فيلق القدس» سفيراً في العراق

إيران تعيّن عميل محنك من «فيلق القدس» سفيراً في العراق



 معهد واشنطن
في الآونة الأخيرة، أكّدت مصادر مختلفة أنه سيتمّ تعيين العميد ايرج مسجدي من «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني، وهو كبير مستشاري قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني ورئيس الأركان السابق لـ مقر «رمضان» في «الحرس الثوري»، ليصبح السفير الإيراني المقبل في العراق. إلا أن المنصب الدقيق الذي شغله مسجدي في «فيلق القدس» غير واضح؛ فقد زعمت بعض التقارير أنه تولى إدارة مكتب الشؤون العراقية. وما هو واضح، وفقاً لبعض التقارير، هو تورطه العميق في أنشطة «فيلق القدس» في العراق خلال السنوات العديدة الماضية، والتي أسفرت الكثير منها عن مقتل أو جرح أو اختطاف عدد من جنود القوات الأمريكية وقوات التحالف فضلاً عن اغتيال عدد من مسؤولي المحافظات في العراق الذين اختلفوا في الرأي مع طهران.
وسيخلف مسجدي حسن دانيفار، ضابط آخر من «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري». لكن في حين أمضى دانيفار معظم حياته المهنية كمهندس مدني وأخصائي لوجستيات، من المتوقع أن يستفيد السفير الجديد من خبرته في مجال العمليات والاستخبارات لزيادة وتيرة تحوّل المنظمات شبه العسكرية الشيعية في العراق إلى عناصر أكثر قوة من جهاز أمن الدولة، مع قدرة أكبر للتأثير على الانتخابات المقبلة والسياسة العراقية إلى حد بعيد.
ولـ «فيلق القدس» وجود كبير في العديد من البعثات الدبلوماسية الإيرانية في جميع أنحاء العالم، وخاصة في مناطق الصراع. على سبيل المثال، عندما هاجمت قوات "طالبان" القنصلية الإيرانية في أفغانستان عام 1998، كان جميع الأحد عشر إيرانياً تقريباً الذين لاقوا مصرعهم من أعضاء «فيلق القدس». ولطالما رسخ السفراء الإيرانيون أيضاً وجود «فيلق القدس» في دول تتمتع بقيمة عالية من الناحية الإستراتيجية، مما دفع برئيس "مجلس تشخيص مصلحة النظام" الراحل أكبر هاشمي رفسنجاني إلى التذمر من هيمنة «الفيلق» على كافة أوجه السياسة الإقليمية لإيران والشكوى بأنه قد تسبب بشلل كبير في وزارة الخارجية.
ويعود انخراط «الحرس الثوري» في العمليات الخارجية إلى عام 1980، عندما قام بتدريب المجاهدين الأفغان لمحاربة الغزات السوفيت. وفي وقت لاحق قام بتدريب شيعة لبنانيين، وأسّس «حزب الله» كمجموعة مظلة لعدة جماعات شيعية مقاتلة تحارب الجيش الإسرائيلي في لبنان.
وفي عام 1983، عندما كانت الحرب ضد العراق خلال عهد صدام حسين في ذروتها، شكلت طهران مقر «رمضان»، الذي سبق «فيلق القدس» الحالي. وتمّ تعيين مرتضى رضائي للإشراف على مهمة «الفيلق» الأساسية ألا وهي: تنفيذ عمليات بأسلوب الأحزاب/العصابات مع المتمردين الأكراد في جبال شمال العراق، فضلاً عن القيام بعمليات معهم لجمع المعلومات الاستخباراتية. وقد منحت هذه المقاربة إيران قدراً من المبادرة في الحرب. وتضمنت وحدات «الحرس الثوري» التابعة لـ مقر «رمضان» "الفرقة الخاصة السادسة"، و«فيلق بدر التاسع» (حالياً «منظمة بدر»)، الذي يضم منشقين عراقيين وسجناء حرب سابقين، و"لواء النخبة 66 المحمول جوَا"، ولواءي "ظفر" و"أبوزار"، علماً بأن الأخير شمل متطوعين أفغان. ولاحقاً، تمّ دمج "الفرقة السادسة" و"اللواء 66" ليشكلا "فيلق ولي الأمر"، وهي وحدة كُلفت بحماية المرشد الأعلى علي خامنئي.
وفي مقابلة مع وكالة "مهر" الإيرانية للأنباء في حزيران/يونيو الماضي، تحدث مسجدي عن "المهمة التاريخية" للجمهورية الإسلامية المتمثلة بدعم كافة الدول الإسلامية والجماعات المقاتلة التي تحارب "الصهيونية والإمبريالية" لكي يمكن "تسريع" الهدف النهائي بتدمير إسرائيل. كما أشار إلى أن إيران تتبع دبلوماسية أجنبية على ثلاث جبهات متوازية: رسمية، وتنظيمية مسلحة (أو "ثورية")، وشعبية، كما حدّدها المرشد الأعلى خامنئي. ووفقاً للعميد، هذا يعني أنه على الرغم من ممارسة إيران أعمالاً رسمية مع الحكومات الإقليمية، إلا أنها تحافظ أيضاً على روابط وثيقة مع الجماعات المسلحة والأحزاب من أجل التأثير على الأحداث المحلية والرأي العام. 
ومن جهة أخرى، تَفاخر مسجدي بأنه بإمكان إيران إلحاق الهزيمة بتنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق خلال يومين إذا سُمح لـ «الحرس الثوري» الإيراني بنشر ثلاث فرق قتالية هناك. وعلى نطاق أوسع، يُعتبر مسجدي من دعاة زيادة عمق إيران الإستراتيجي عبر استمرار حملات الهيمنة في جميع أنحاء المنطقة. وحتى أنه دعا إلى شمل الضفة الغربية في هذا العمق الاستراتيجي. وفي العام الماضي، وخلال مؤتمر عُقد في طهران تحت عنوان "الجهاد سيستمر"، قال "علينا ردع إسرائيل من مهاجمة إيران عبر إبقائها منشغلة على حدودها الخاصة... علينا زيادة قوتنا في الضفة الغربية وقطاع غزة. ..علينا تسليح الضفة الغربية".
وفي ظل تعيين مسجدي سفيراً في بغداد، من المحتمل أن تعزّز إيران دعمها المالي والمادي والتوجيهي لـ «منظمة بدر» و «وحدات الحشد الشعبي» (الشبكة الرسمية للميليشيات الشيعية). وهذان الوكيلان يديران حالياً مرافق تدريب في النجف والحلة، على التوالي، حيث يعدّان متطوعين عراقيين للقتال في العراق وسوريا. وتهدف طهران على الأرجح إلى إعدادهم للفترة التي تعقب هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق مباشرة، سواء كان ذلك يعني نشرهم في سوريا على نطاق أوسع، أو حتى إعادة تجميعهم لمواجهة إسرائيل.

فرزين نديمي هو محلل متخصص في الشؤون الأمنية والدفاعية المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج ومقره في واشنطن.