منير مهملات, باحث رئيسي في المركز اللبناني للدراسات
| |
February 2020
لماذا قد تؤدي خطة تقشفية تقليدية إلى تفاقم المشاكل في لبنان
في الواقع، إنّ كلّ التحاليل الحديثة للمشاكل الاقتصاديّة المستمرّة التي يعاني منها لبنان تركّز على الدين الحكوميّ المرتفع. فمدفوعات الفائدة، التي تشكّل حالياً أكثر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي، تستهلك أكثر من ثلث الموازنة العامة سنوياً. وتؤدي مستويات الدين المرتفعة هذه إلى تراجع الاستثمارات المهمة في مجال البنية التحتية والخدمات الاجتماعية وقد ينتج عنها تعثّر عند تدهور الأوضاع المالية وانخفاض الإيرادات الضريبية.
واليوم، يُعتبر هذا الخطر أكبر من أيّ وقت مضى. فالانخفاض المتسارع في النشاط الاقتصادي والإيرادات الضريبية الحكومية وتراجع الدعم الخارجيّ يثيران الشكوك حول قدرة الخزينة على سداد سندات اليوروبوند المستحقّة. وخوفاً من حصول تعثّر رسميّ قد يؤدي إلى انعكاسات سياسية واقتصادية يستحيل توقّعها، طلب رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من صندوق النقد الدولي دراسة خيارات "المساعدة الفنية" المحتملة. ومع أنّه لم يُرسل طلباً رسمياً بهذا الخصوص، إلا أنّ تنفيذ برنامج إنقاذي من دون مشاركة صندوق النقد الدوليّ يبدو أمراً مستبعداً. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النوع من البرامج يقدّم المساعدة عن طريق قروض بشروط ميسّرة وأدوات مالية مشابهة مقابل تنفيذ "إصلاحات هيكلية" تشمل تدابير عدّة، كتعديلات تقشفية ومالية تتمثّل بخفض الإنفاق الحكوميّ والخصخصة وإعادة جدولة الدين. لكن، فيما قد يحول برنامج إنقاذيّ تقليديّ مبنيّ على تدابير تقشفية دون تعثّر البلاد ويحدّ من الآثار الفورية للأزمة المالية، من المستبعد أن تحقّق التدابير التقشفية المرافقة له الأهداف المرجوّة منها. فمن المرجح أن تؤدي هذه التدابير إلى تفاقم المشاكل السياسية والاقتصادية في لبنان لأنّ المشكلة الفعليّة ليست في الاستدانة بحدّ ذاتها، بل في طريقة صرف الأموال. ومع أنّ تقارير صندوق النقد الدوليّ الأخيرة حول الاستراتيجية تشير إلى أنّ الصندوق بات يميل إلى التركيز بشكل أكبر على الإنفاق الاجتماعيّ، إلا أنّ البرامج الأخيرة التي نُفّذت في مصر والأردن وتونس تبيّن أنّ برامج صندوق النقد الدوليّ في الشرق الأوسط لا تزال تعتمد السبل النيوليبراليّة القديمة التي تركز على التدابير التقشفية في الدرجة الأولى لإنقاذ الموازنة العامة.1 وتتعرّض هذه الفلسفة للانتقادات لأسباب كثيرة، أبرزها أنّ التدابير التقشفية في الأنظمة السياسية الزبائنية في الدول الضعيفة مثل لبنان – كخفض الميزانية المخصصة للإدارة العامة والموظفين الحكوميين بنسب تحدّدها النخب السياسية، وخفض الإنفاق الحكومي على البنية التحتية والخدمات الاجتماعية أو خصخصة أصول الدولة مثل قطاع الاتصالات – قد لا تعالج أوجه القصور التي أدّت إلى تدهور الوضع الماليّ للحكومة. أوّلاً، قد يؤدي التقشف إلى تراجع النشاط الاقتصاديّ بشكل أكبر. فالإنفاق الحكوميّ على الموظفين، الذين تشكّل نفقاتهم ثلث النفقات الحكوميّة تقريباً وتسجّل ارتفاعاً أسرع من أيّ نفقات أخرى، يساهم إلى حدّ كبير في النشاط الاقتصاديّ الإجماليّ الذي يعتمد بمعدّل ثلاثة أرباع تقريباً على الاستهلاك والخدمات. وتعتمد المناطق الريفية بشكل خاصّ، المحرومة إلى حدّ كبير من الشركات القليلة المتبقيّة التي تساهم في النشاط الصناعيّ المثمر، على الإنفاق الحكوميّ على الشرطة والأساتذة والموظفين الحكوميين الآخرين. وبالتالي، قد يتسبب خفض رواتب هؤلاء الموظفين ومعاشاتهم التقاعدية أو تسريحهم من العمل بتقليص القدرة الشرائية لآلاف اللبنانييّن الذين يقطن الكثيرون منهم في مناطق تفتقر إلى مصادر دخل بديلة. وقد يؤدي غياب قاعدة إنتاجية قادرة على تمويل الواردات بشكل مستدام من خلال العملة الأجنبية (أو الحدّ من الاعتماد على الواردات) إلى تفاقم هذه الموجة في حال استمرّت قيمة الليرة في الانخفاض وإلى ارتفاع كلفة الواردات. وسينتج عن ذلك تراجع ملحوظ في النفقات الاستهلاكية، ما سيفرض مزيداً من الضغوط على ميزانيات الشركات وعلى القطاع غير النظاميّ الكبير الذي يساهم بنسبة 30% تقريباً في الناتج المحلي الإجمالي ويضمّ أكثر من نصف الوظائف ويعتمد إلى حدّ كبير على الإنفاق على الاستهلاك. وفي غياب آليات الحماية الاجتماعية الفعالة، سيؤدي خفض رواتب موظفي القطاع العام إلى تدهور الوضع الماليّ لدى الكثير من اللبنانيّين. ففي ظلّ عجز المواطنين عن تسديد قروض الإسكان والأعمال أو أقساط أولادهم المدرسية، قد تؤدي التدابير التقشفية المتهورة إلى تفاقم الأزمة المالية ونشوء كارثة تطال مختلف الأجيال، علماً أنّ عشرات آلاف العائلات اضطرت إلى نقل أولادها من المدارس الخاصّة فيما تواجه الجامعات ضغوطاً مالية بسبب عجز طلابها عن دفع الأقساط. بالإضافة إلى ذلك، إنّ أهداف الموازنة المفروضة من الخارج وغير المحددة بوضوح لا تولّد لدى السياسيين حسّ المسؤولية اللازم لتنفيذ الإصلاحات الضرورية.2 وتشكّل تجارب لبنان مع البرامج الإصلاحية السابقة مثالاً واضحاً على ذلك. لكنّ حسّ المسؤولية هذا هو شرط أساسيّ لتنفيذ الإصلاحات الهيكلية ولتحقيق الكفاءة في توفير الخدمات بشكل خاصّ، وهذا هو سبب من الأسباب الرئيسية وراء استمرار التظاهرات. وإذا كانت جودة الإدارة العامة والخدمات التي تقدّمها متناسبة مع حجم القطاع العام، لا تطرح تكاليف الموظفين المرتفعة مشكلة بحدّ ذاتها. لكنّ النخب في لبنان أثبتت عدم استعدادها لرفع مستوى الكفاءة لأنّ حجم معظم المؤسسات العامة يعكس اعتبارات مبنيّة على الزبائنية بشكلٍ بحت. فالانتماء الطائفيّ يطغى على الجدارة في عمليّة التوظيف في القطاع الحكوميّ.5 وبالتالي، بغية تحسين كفاءة الخدمات العامّة، ينبغي البدء بمراجعة إجراءات التوظيف عوضاً عن خفض الإنفاق على الإدارة العامة،3 وذلك من أجل تعزيز التطابق بين النفقات العامة وجودة الخدمات المقدّمة. والأهمّ من ذلك هو أنّ اللجوء إلى مزيد من التقشف قد يؤدي إلى زيادة عدم المساواة الاقتصادية والسياسية في بلد يسجّل إحدى أعلى النسب في العالم على صعيد عدم المساواة في الدخل.4 فخصخصة قطاع الاتصالات، مثلاً، من شأنه أن يحصر الثروة الاقتصادية في أيدي جهات قليلة. إضافةً إلى ذلك، يؤثر تراجع القوة الشرائية، كما هو مذكور أعلاه، في الدرجة الأولى على القطاعات الاقتصادية التي ليس لدى النخب السياسية الكثير لتخسره فيها. فقد أظهرت الأبحاث الأخيرة التي أجراها المركز اللبنانيّ للدراسات أنّ النخب تكتسب ثروتها الاقتصادية وبالتالي قوتها السياسية من علاقاتها مع الشركات العاملة في القطاعات التي لا تتأثّر نسبياً بالتدهور الاقتصاديّ. وستؤدي هذه الأنماط، إلى جانب انخفاض جودة الخدمات العامة والحماية الاجتماعية، إلى رفع درجة اعتماد الفقراء – وبشكل متزايد الطبقة الوسطى الضعيفة - على النخب في مجتمعاتها المحلية من أجل توفير فرص العمل والرعاية الصحية والتعليم. وفي هذه الحال، لن يفشل برنامج من هذا النوع في تحقيق الأهداف المتوخاة منه فحسب، بل سيسهّل أيضاً لعبة النخب. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تؤدي هذه العوامل، أي ارتفاع عدم المساواة والاعتماد على النخب التي تسعى إلى المحافظة على الدعم الشعبيّ لها وتراجع الفرص بسبب هشاشة الوضع الاقتصاديّ وتقلّص القوة الشرائية، إلى تأجيج المعارضة العنيفة وربّما النزاع المسلّح.6 لذلك، وعلى الرغم من وجود أسباب كثيرة تبرّر فقدان الثقة في قدرة النخب السياسية على الوفاء بوعودها، يتعين على الجهات المانحة وشركاء لبنان التركيز على وضع مجموعة من الشروط التي تتيح إحداث صدمة اقتصادية إيجابية قد تحول دون إقفال الشركات أبوابها والتخلي عن خطط التقاعد وتسريح الموظفين الحكوميين في ظلّ غياب آليات فعالة للحماية الاجتماعية. في هذا الإطار، هدفت خطة الاستثمار الرأسمالي المرتبطة بمؤتمر "سيدر" إلى اعتماد برنامج للاستثمار في البنية التحتية العامة المتردّية في لبنان من أجل استحداث آلاف فرص العمل وتحقيق مكاسب أخرى على صعيد الكفاءة. غير أن المناكفات السياسية والجمود لم تسمح للبنانيّين بتحقيق أهداف البرنامج. من خلال تبني رؤية طويلة الأمد، على برامج المساعدة المشروطة، في حال تولى صندوق النقد الدوليّ أوجهات مانحة أخرى قيادتها، أن تستفيد من الفرصة الجديدة المتمثلة بحكومة جديدة ومجتمع مدنيّ يقظ وأن تعطي الأولوية للإصلاحات التي يمكنها أن تسهّل بروز إرادة سياسية مختلفة في المستقبل. فلكي يتحسن الاقتصاد، يجب أن تتغير السياسة. وتشمل هذه التدابير بعض المطالب الشعبية الحالية الأساسية، ولا سيّما إصلاح القضاء لضمان استقلاله واعتماد آليات لتعزيز مساءلة السياسيّين. فللإصلاحات قدرة على تغيير لعبة النخب أكثر من أيّ خطة تقشفية. لكنّ ذلك لا يعني أنّ الإصلاحات الهيكلية ليست ضرورية. فإذا أراد لبنان الخروج من دوّامة الدين والنظام السياسي الطائفيّ واعتماد مسار للنموّ المستدام، لا مفرّ من تعديل سياسته الضريبية وإعادة هيكلة القطاع العام الذي يفتقر إلى الكفاءة – ويستنزف الموارد العامة ويعيق الاستثمارات الضرورية ويعجز عن تقديم الخدمات الأساسية. لكن من أجل إصلاح القطاع العامّ وخفض النفقات، لا ينبغي اللجوء إلى تدابير تقشفية، بل وضع تصوّر إيجابيّ لمستقبل لبنان وخطة أوسع لإعادة هيكلة الاقتصاد وضمان استدامته. وبغية تشريع هذه الإصلاحات وزيادة الضغط السياسيّ على النخب، ينبغي أن تستغلّ برامج المساعدة الدولية الفرصة المتوفرة حالياً وأن تجعل المساعدة الماليّة مشروطة ببرنامج إصلاحيّ يعكس مطالب المواطنين. وينبغي أيضاً أن تمتنع هذه البرامج عن إعطاء الأولوية للتدابير التقشفية المتعلقة بالميزانية من أجل تعزيز المساءلة السياسيّة وزيادة الحوافز الانتخابية والإنتاجية الإدارية بهدف إعادة هيكلة الحياة السياسية. ففي حال عدم معالجة هذه الثغرات، لن يتمكّن أيّ برنامج تقشفيّ من تحقيق أهدافه المنشودة، بل سيؤدي إلى تفاقم المشاكل التي يعاني منها لبنان. 1- الأمم المتحدة (2019) "تقرير التنمية الإنسانية العربية – نعم للشمولية" (Arab Human Development Report – Leaving no one behind)، متوفر على: arab-hdr.org 2 بيدرو دال بو، أندرو فوستر، لويس باترمان، "المؤسسات والسلوك: أدلة تجريبية على آثار الديمقراطية" (Institutions and Behavior: (Experimental Evidence on the Effects of Democracy، ، مجلة American Economic Review 100 الرقم 5 (2010): 29-2205. 3 باسل ف. صلوخ، "الطائف والدولة اللبنانية: الاقتصاد السياسي في القطاع العام الطائفي" (Taif and the Lebanese State: The Political Economy of a Very Sectarian Public Sector)، Nationalism and Ethnic Politics 25، الرقم 1 (2019): 60-43، https://doi.org/10.1080/13537113.2019.1565177 4 دايفيد هيو-جونز، "لماذا تذهب الأزمات سدى؟ التقشف المالي وإصلاح الخدمات العامة" (Why Do Crises Go to Waste? Austerity and Public Service Reform)، Public Choice 158، الرقم 2-1 (2014): 20-209، https://doi.org/10.1007/s11127-012-0002-5 5 ليديا أسود، "إعادة النظر في المعجزة الاقتصادية اللبنانية: التركز المفرط للدخل والثروة في لبنان 2014-2005" (“Rethinking the Lebanese Economic Miracle: The Extreme Concentration of Income and Wealth in Lebanon 2005-2014) WID. سلسلة أوراق العمل العالمية (باريس، 2017) 6 لارك-إريك سيدرمان، كريستيان سكريدي غليديتش، هالفارد بوهاوغ، عدم المساواة والمظالم والحرب الأهلية (Inequalities, Grievances, and Civil War) (كامبريدج: دار نشر جامعة كامبريدج، 2013( نُشر هذا المقال سابقاً في مجلة "لو كوميرس دو ليفان" (Le Commerce du Levant) ومجلة السياسة والسياسات الشرق الأوسطية التابعة لكلّية كينيدي في جامعة هارفارد. |